Friday, April 30, 2010

المرأة والقضاء....والمجلس




كشف الموقف المتصلب للقضاة أعضاء الجمعية العمومية لمجلس الدولة عن المدى البعيد الذى ذهب اليه المجتمع المدنى فى مصر من تمثل وليس تأثر فقط للأفكار السلفية، وصبغها لجميع أوجه الحياة فى مصر والمجتمعات العربية والإسلامية عامة الى درجة صادمة تجعل العلاج صعب جدا وشبه مستعصى، وحتى ما كان يعرف بالنخبة أو الإنتلجنسيا لم تسلم من تبنى هذه الأفكار وأبسط مثال لذلك هو موقف القضاة من رفض تعيين المرأة قاضية متتعللين بحجج ومقولات اسلامية تجاوزتها كثير من دول العالم ومن بينها دول إسلامية عديدة توصف بالتشدد مثل السودان واليمن.

لقد ابتعد المجتمع كثيرا عن افكار الحداثة والتقدم، وأوغل فى الإنغماس فى دهاليز الفكر السلفى المعتق، والحياة حولنا بأكملها شاهد على ذلك، عادات الميلاد والزواج والموت كلها تغيرت ونسخت بأخرى قادمة من الصحراء، سبوع المولود كنا نحتفل به فى طقس شعبى مبهج، الغربال والهون والحلويات وأغانى برجلاتك وياربنا ياربنا تكبر وتبقى زينا، واسمع كلام فلانة ومتسمعش كلام علانة، تحول بقدرة قادر الى عقيقة ولحم، وحتى لم ينسوا أن يفرقوا فيه بين الذكر والأنثى فله شاتين ولها شاة واحدة، حتى الأفراح أصبح معظمها يقام فى المساجد فى اطار فصل كامل بين الجنسين، يجلس الرجال ساكتين كأنهم فى عزاء بينما تردد النساء بعض الأهازيج الدينية، حضرت احد تلك الأفراح وعندما سالت عن رأيئ قلت لهم العروسة "إتزّفت"، وكان هذا رأيي فى الفرح.

حتى الكورة لم تسلم من ظواهر التأسلم، بدءا من تسمية فريقنا بفريق الساجدين، وأن سبب الإنتصارات الكروية هو دعاء الجماهير، وصلوات اللاعبين وليس مستواهم الفنى، وقيل ان ابوتريكة اتصل بالفريق قبل مباراة الكأس وطلب منهم صلاة قضاء الحاجة، وشاهدنا رفع المصاحف فى مواجهة الكاميرات فى المباريات.

عاصرت مرحلة الستينات من القرن الماضى حين كان السفور هو القاعدة وكان الحجاب ظاهرة إستثنائية، أيامها إنتشرت موضة المينى جيب، ولكن كانت الأخلاق أفضل بكثير، والتسامح هو السائد، لم نشاهد حينها التحرش بالنساء كما يحدث الآن، حتى المعاكسات كانت فى إطار رقيق، ولكن كلما أوغل المجتمع فى عملية التدين وطغى الحجاب والنقاب والذقون والجلابيب إزدادت الأخلاق تدهورا، والفساد إنتشارا، وأصبح العنف خاصة ضد المرأة إحدى السمات المميزة ، هل يملك هؤلاء الذين يدعون التدين أن يفسروا لنا أسباب ذلك.

لم أكن أتصور أن الأمر بهذه البشاعة حتى يصل الى من نسميهم صفوة المجتمع، النخبة التى نسميها الضمير الجمعى لنا والمفترض فيها انها تملك الحقيقة، وعنوانها العدالة العمياء التى تمسك بميزان الحق، أن ترفع راية العصيان بكل هذا الإصرار والإجماع مطالبة برفض دخول المرأة بين صفوفهم حتى لا تدنسها، مغلفين رأيهم ببعض المقولات البالية والمتخلفة عن الولاية الكبرى والصغرى المختلف عليها حتى دينيا، والمسموح بها كما ذكرت فى معظم البلدان الإسلامية، ومتظاهرين ببعض المسوح الإنسانية الزائفة مثل أننا نشفق عليها من صعوبة هذا العمل وعدم إتساقه مع طبيعتها الأنثوية التى تحيض وتلد.

إن هذا المنطق المعوج إذا ما مددناه على إستقامته لا يؤدى فى النهاية الاّ الى المطالبة بعودة المرأة الى المنزل تطبيقا لفهم خاطيئ لقوله ( وقرن فى بيوتكن)، والإهدار الكامل لمجمل مسيرة المرأة الى التحرر والمساواة، وحصرها فقط فى وعاء لإمتاع الرجل وحاضنة لإنتاج الأطفال.

لقد صدعوا رؤوسنا طويلا بوضع المرأة فى الإسلام، وكيف أنه كرمها، فى الوقت ذاته فإن جميع ممارساتهم هى الضد تماما، كيف أنهم أول من عارض حقوق المرأة السياسية فى الكويت، وهم الذين يجلدون النساء اللاتى ترتدين حمالات صدور فى الصومال، والذين يرجمون النساء فى ايران وأفغانستان، والأمثلة لا تعد وآخرها رفض مجلس الدولة فى مصر تعيين النساء فى سلك القضاة.

إن الغمامة السوداء لا تلف رؤوس النساء فقط ولكن ظلالها البغيضة أصبحت تعمى عيون المجتمع بأكمله الاّ من رحم ربى.

اليسار المصرى......وسؤال الأزمة


تبدو أزمة اليسار المصرى أزمة بنيوية رافقته منذ نشأته حتى الآن، ولكن أزمته الكبرى نشأت منذ حوالى عقدين من السنين بعد إنفراط عقد المنظومة الإشتراكية وتفكك وزوال الإتحاد السوفيتى، حيث فقد هذا اليسار وبشكل نهائى ركيزته الأولى على المستوى العالمى على المستويين المادى والفكرى، وانهارت التجربة التى كان يتغنى بها أمام خصومه ومريديه، فقد ارتبط هذا اليسار ( وأقصد اليسار الشيوعى تحديدا) منذ ولادته عضويا بهذا الجسم، بل أن إنتصار الثورة الشيوعية فى 1917 كانت هى الشرارة الأولى للحركة الشيوعية فى مصر وفى أقطار أخرى عديدة، فتشكل فى مصر الحزب الإشتراكى المصرى بعد أقل من ثلاث سنوات من سيطرة الشيوعيون على السلطة فى موسكو ليغير اسمه بعد اقل من عام الى الحزب الشيوعى بناءا على ضغط من المركز وذلك للسماح له للإنضمام الى الأممية الثالثة، وهكذا كانت الأطراف فى العموم (خاصة الضعيفة منها) فى إرتباط تنظيمى قسرى بالمركز مشكلة بذور هذه الأزمة البنيوية.

و كانت احدى الأزمات المبكرة للحزب الوليد هى إنشقاق جزأ هام من قيادته وقاعدييه وعلى رأسهم المفكر الكبير "سلامة موسى" إحتجاجا على هذا النهج، واستمرت المجموعة التى سمت نفسها بالبلشفية فى قيادة الحزب مستلهمة آراء القادة السوفييت فى رسم التناقضات الداخلية فى مصر وعلى رأسها الموقف الصدامى من حزب الوفد ذو الجماهيرية الساحقة والمهيمن على الشارع المصرى مما ساهم فى توجيه ضربة قاضية الى هذا الحزب الوليد فى عام 1924 بعد وصول حزب الوفد للسلطة.

ويمكن تقسيم تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر الى عدة حلقات غير محددة بفترة زمنية قاطعة ولكنها تجاوزا كالآتى:

الحلقة الأولى : من بدايات القرن العشرين وحتى تصفية الحزب الشيوعى فى 1924

الحلقة الثانية: من نهايات الثلاثينيات (بداية الحرب العالمية الثانية) وحتى قرار حل الحزب الشيوعى المصرى الموحد فى عام 1965

الحلقة الثالثة : وتبدأ من هزيمة 1967 وحتى نهايات الثمانيات( سقوط الإتحاد السوفييتى).

الحلقة الرابعة: وما زالت جنينية وفى طور التشكل مع بداية الألفية الثالثة وحتى الآن.

وكما ذكرت فإن هذا التقسيم افتراضى حيث لا توجد فواصل قاطعة بين كل حلقة وأخرى ويمكن النظر اليها كموجات من المد والجزر أثرت وتأثرت بالظروف الوضوعية فى المجتمع وللحقيقة فإن اكثر هذه الحلقات تأثيرا وتجذرا كانت تلك الحلقة التى واكبت الحرب الكونية الثانية وحتى منتصف الستينات ( الحلقة الثانية )، و على وجه العموم فأنا لا أقصد التأريخ لتطور الحركة الشيوعية فذلك ليس مجالى ولكن البحث فى الموضوع من منظور الأزمة.

ان الظرف الراهن والحراك الإجتماعى المتسارع فى اطار حركة شعبية مطلبية غير مسبوقة وخاصة من جانب الطبقة العاملة تذكرنا بالأوضاع فى مصر عقب نهاية الحرب الثانية وقبيل الثورة وما صاحب هذه الفترة من قلاقل وفورات شملت معظم قطاعات المجتمع من عمال وفلاحين وطلاب وموظفين وحتى قوى الأمن لم تسلم منها وتمثل ذلك فى مظاهرات بلوكات النظام، وتذكرنا هذه المرحلة أيضا بنهاية الثمانينات فى أوروبا الشرقية والثورات المتتالية ضد أنظمة القمع البوليسية.

و الوضع الحالى يتميز بسيطرة نظام حكم متخلف، مع سيطرة مطلقة لكبار رجال الأعمال عليه و مرتبط بشكل عضوى بالمنظومة الإمبريالية وعلى راسها الولايات المتحدة وغارق فى الفساد حتى اذنيه بينما الأغلبية الساحقة تعيش تحت خط الفقر فى ظروف اقتصادية بالغة السوء ولا تملك الا الثورة على هذه الأوضاع المهينة فى شكل حركة غير مسبوقة من الإحتجاجات والإضرابات والإعتصامات على أبواب البرلمان بشقيه الشعب والشورى ومجلس الوزراء وسلالم النقابات وفى أماكن عملها منتزعة حقها فى الإضراب والإعتصام من أنياب السلطة.

وفى ظل غياب مريب وعجز شبه كامل للمعارضة التقليدية ممثلة فى الأحزاب الرسمية اليسارية ( التجمع والناصري) والليبرالية ( الوفد والجبهة ومن لف لفهم ) وحتى الإخوان المسلمين القوة الأكثر تنظيما بتاريخهم الطويل فى المراوغة وعقد الصفقات والذين ترتبط معظم تحركاتهم بقضايا خارجية لا تزعج النظام كثيرا مثل الدفاع عن الأقصى ومناصرة فرعهم فى غزة "حماس"، ناهيك عن قضايا عابرة للقارات مثل موضوع الرسوم المسيئة.

فى ظل هذه الأوضاع المتردية وغياب اليسار المنظم عن الساحة وتشرذم بقاياه القديمة التى تجاوزها الزمن، فإنه تبقى لليسار فرصة تاريخية قد تمكنه اذا احسن استخدامها ان يجد له موضع قدم على الأرض، وتتمثل هذه الفرصة فى وجود عاملين:

العامل الأول: هو الحراك العمالى المطلبى ذو الطابع الإقتصادى والإجتماعى المتصاعد منذ ثلاث سنوات والذى ينفرد اليسار بالتماس معه

العامل الثانى: هو شعار العدالة الاجتماعية بمفهومها الطبقى والذى يتميز به اليسار كونه جزء اساسى من رؤيته وتوجهه السياسى

لذا فإن اليسار بإمكانه إذا أحسن إستغلال هذا الشعار والعمل على الإلتحام بهذه الحركة الوليدة والصاعدة أن يرسخ قدميه مرة أخرى فى الواقع، و أعنى هنا اليسار الجديد والمتمثل فى الحركات الشبابية الجديدة من الناشطين على الإنترنت وحركة الإحتجاجات الإجتماعية المتصاعدة و ملتحمين بالإضرابات والإعتصامات والوقفات الإحتجاجية التى لعبت الدور الأساسى فى نهوض اليسار فى أكثر من دولة بأمريكا اللاتينية والتى إستطاعت فى النهاية أن تشكل من خلال العمل الجماهيرى أحزابا ثورية فى هذه البلدان إستطاعت الإطاحة بالنظم الرجعية الحاكمة.

لا يعنى مما تقدم محاولة التقليل من أهمية التنظيم الثورى فكما قال لينين فإنه لا حركة ثورية بدون حزب ثورى وأن بناء الحزب هو المسألة الأصعب ولكن بناء هذا الحزب لا يتم فى الغرف المغلقة وتدبيج خط سياسى نظرى من استلهام أفكار طبقت فى دول وظروف مختلفة، ونعود الى لينين فى كلماته القاطعة " إن الماركسية هى مرشد للعمل وليست عقيدة جامدة "وفى رسالته الى شعوب الشرق" لن تجدوا فى الكتب إجابة لأسإلتكم".

إن أزمة حركات بدأت بشكل جماهيرى ثم سرعان ما انتكست مثل "كفاية" كانت فى انها ومنذ بداياتها الأولى نشأت من الحركة بين الجماهير ولكن ظلت عينها تنظر الى أعلى باتجاه الأشكال التقليدية القائمة فى محاولة الجمع بين الأضداد فى خليط عجيب غير متجانس من يساريين وليبراليين واسلاميين وانتهت بالسقوط فى يد قيادة اقل ما يقال عنها انها قيادة شوفينية ثيوقراطية (المسيرى ).

إن ما يعرف باليسار التقليدى أو بقايا الحلقة الثانية والثالثة قد تبخروا تقريبا حتى قبل انهيار الإتحاد السوفيتى والتحق عدد منهم بالإمبريالية وآخرين تأسلموا وارتمى بعضهم فى أحضان السلطة وتفرق معظمهم على حركات حقوق الإنسان ومراكز الأبحاث الغربية والأحزاب البرجوازية " الغد والجبهة والكرامة .. وغيرها" وفى أحسن الأحوال بقى جزء منهم فى حزب التجمع الذى ما زال يحلم برأسمالية الدولة ويلهث لإستجداء بضعة مقاعد فى البرلمان من الحزب الوطنى، وحتى البعض خارج هذه الأحزاب ما زال يحاول احياء هذه الأشكال المهترئة من خلال اقامة دكاكين صورية لا تتجاوز عتبة المنظرين لها فى محاولة للبحث عن سبوبة للإرتزاق .

إن الظرف الذى نعيشه الآن مختلف تماما عما كان فى النصف الأخير من القرن الماضى، ولسنا سلفيين حتى نحاول احياء هذا الماضى، فأدوات العولمة وثورة الإتصالات تقتحم علينا كل أوجه الحياة، والثنائية القطبية لم يعد لها وجود، والحديث الذى كان يقال أن القرن العشرين هو عصر الإنتقال من الرأسمالية الى الشيوعية انتهى بكابوس نهاية التاريخ، والعودة الى ما يقرب من نقطة الصفر، والحلم السوفيتى انهار كاشفا عن أسوأ ما أنتجته الستالينية ووجدنا تحت الغطاء مجتمع المافيا وتصدير العاهرات.

حتى بعد هذا السقوط المدوى لم يتعلم الشيوعيين من الدرس شيئا، فلا توجد حتى الآن دراسة محترمة تبين لنا أسباب ما حدث، ولا توجد مراجعة جادة للأفكار السابقة، وما زال البعض يردد ببغائية مقولات ديكتاتورية البروليتاريا والرأسمالية تنتج حفارى قبرها دون الإهتمام بالمقولة اللينينية ( تحليل ملموس للواقع الملموس ).

لا يستطيع احد منا ادعاء الحكمة بأثر رجعى ولا الحكم على مواقف الآخرين بمنظور متأخر، ولكن فى تقديرى أن أكبر خطأين وقع فيهم الشيوعيون عموما حتى المختلفون منهم كان الإنحياز المطلق لمواقف المركز (حتى بعد حل الأممية الثالثة بطلب من النظام الرأسمالى "الحلفاء")، فقد وضع الشيوعيون على رأس أجندتهم الدفاع عن بناء الإشتراكية فى الوطن الأم وأصبحوا فى الأغلب متلقين لتعليمات وليس لأفكار المركز، خذ مثلا قضية الصراع العربى الإسرائيلى فقد تبنى الشيوعيين الموقف السوفيتى من قرار التقسيم بشكل تلقائى دون مناقشة، وبغض النظر عن مدى صحة هذا الموقف من عدمه فلم يكن مطلوبا حينها الإنعزال عن الجماهير الغاضبة والمؤيدة للكفاح المسلح، كذلك فى موضوع الوحدة مع سوريا و الموقف من ثورة يوليو عندما كان الشيوعيون يتذبذبون بين الرفض التام والتأييد المطلق حسب ما يرى القابعون فى الكرملين، وما محاولات إحياء الأممية مرة أخرى من خلال نظام تشافيز فى فنزويلا بعقد مؤتمر فى كاراكاس بحضور 50 منظمة يسارية2009 لتشكيل أممية خامسة الا صورة جديدة من صور الهيمنة فقد تعلمنا أن الذى يمول هو من يفرض رؤيته دائما.

الخطأ الثانى كان فى جرثومة التفتت التى ولدت مع هذه الحركة وخاصة فى أوقات الجذر، وأصبح هم الشيوعيين وجزء كبير من جهدهم طوال الوقت هو النضال من اجل التوحد، وكان ذلك يتم فى معظمه بأساليب فوقية وبنظام المحاصصة، الذى سرعان ما ينفرط تاركا خلفه معارك وجروح لا تندمل، ليعود التشرذم اكثر مما كان.

لقد اتاحت السرية التى طبعت التنظيمات الشيوعية تاريخيا فرصة لفرض صورة بغيضة من الدكتاتورية على أعضائها بحجة المركزية الديموقراطية والتى احتفظت دائما بالشق الأول منها، وحاولت السيطرة على تنظيماتها بصورة مطلقة من خلال نظام الإحتراف الثورى والذى تحول الى طوق فى رقاب أفضل الكوادر لديهم، وإن احتفظت السرية دائما والعمل تحت الأرض والأسماء الحركية بسحرها وجاذبيتها لدى الثوريين و كانت تخفى دائما حجمهم الحقيقى، واستعاضوا عن توجههم للشارع بنشرات صفراء لا يقرؤها الا اعضاءها فقط بل واتاحت للسلطات الحاكمة القيام بالعنف والإرهاب والتضليل ضدهم وزرع العملاء بينهم، وهذا ليس موقفا مطلقا من السرية ولكن يجب ان تبنى السرية على معايير موضوعية ولا تكون هدفا فى حد ذاتها.

للأسف الشديد لقد ازدهرت الأفكار والحركات السلفية على حساب انسحاب اليسار من الساحة واستخدمتها السلطة كمخلب قط لها فى وجه اليسار والحركات القومية التى هزم مشروعها فى عام 1967 وخرج مناضليها من المعركة منسحقين أمام سيطرة هذه الأفكار وبدلا من ان يعملوا للنضال ضدها نجد قطاعا كبيرا منهم يغازلها ويدعو الى التنسيق معها بدلا من العمل مع الجماهيرلإستعادة المبادرة منهم، ويضمننون فى برامجهم أفكارا يمكن تأويلها غير مستفيدين من بعض التجارب التاريخية عندما كان الحزب الوطنى القديم يسجل فى صدر لائحته ( نحن حزب لا دينى )، هذه الحركات السلفية بمختلف أطيافها لا تملك برنامجا للعمل سوى شعارات غائمة من قبيل الإسلام هو الحل بدون حتى معرفة ما هو السؤال حتى تكون تلك إجابته؟.

إن اليسار وحده هو الذى يملك برنامجا واضحا للحل من خلال البعد الإجتماعى لهذا البرنامج وطرح شعار العدالة الإجتماعية والموقف الواضح من قضايا المرأة والأقباط، والنضال ضد الرأسمالية المتوحشة والإمبريالية، وهو اى اليسار ببعض رموزه من يتلامس حقيقة مع الحركات العمالية الإجتماعية الناهضة ويسعى لتجذير مطالبها وإكسابها وعيا طبقيا من خلال السعى لبناء النقابات المستقلة وليس فقط التعاطف مع ظروفها القاسية وكما قال جرامشى ( إن الوعى الطبقى لا يشكله فقط الحرمان والجوع والإضطهاد ).

يقول جرامشى فى مكان آخر ( عندما تشيخ الرأسمالية وتعجز الثورة عن الإشتعال يكون المجتمع مريضا ) ، وما يحدث الآن فى حقيقته ليس مرضا وحسب ولكنه إحتضار، وما نحتاجه الآن ليس علاجا ولكن اعادة احياء لهذا الجسد المحتضر، ولا يوجد أمل فى تقديرى الا فى المراهنة على هذا الجيل الجديد من الشباب الذى يندفع بجسارة فى الميدان من أمثال حركات 6 إبريل والإشتراكيين الثوريين وعايز حقى وشباب الجمعية الوطنية للتغيير وكل المجموعات المتشكلة ليس فقط على فراغ الإنترنت بل فى الشارع والعمل الجماهيرى أيضا.

العمالة الآسيوية فى الخليج ..مشكلة متفاقمة


كنت مقيما فى الخليج وتحديدا فى سلطنة عمان لأكثر من عشرين عاما، لذا فأعتبر نفسى شاهدا على فترة طويلة من التطور لهذه البلدان والتى بدأت نهضتها منذ عقود قريبة اللهم الا فى دولتى السعودية والكويت والتى سبقت الآخرين بسبب إكتشاف النفط المبكر بها، ورغم الفترة القصيرة نسبيا فى عمر الشعوب والدول إستطاعت هذه البلدان بفضل الثروة النفطية وعائداتها الضخمة من تحقيق نهضة مادية وعمرانية كبيرة حيث كانت فى معظمها تعيش حياة بدوية بدائية فقيرة وشديدة التخلف.

تميزت المجتمعات القبلية فى الخليج فى فترة ما قبل اكتشاف النفط بعدة سمات نوجزها فيما يلى:

الإلتزام الشديد والطاعة العمياء من المراتب الدنيا للمراتب العليا فى القبيلة الواحدة حيث يخضع الجميع لسلطة شيخ القبيلة الذى يملك اصدار الأحكام وتنفيذها وقد شاهدت بعينى فى بيوتهم آثار ذلك العهد من كور الحديد المعلقة فى سلاسل وتسمى الحجلة كانت تربط فى أقدام السجناء حتى لا يهربون.

الغارات المتبادلة بين القبائل بسبب ندرة الرزق ( الماء – مناطق الرعى – الغذاء ...الخ )، وما تزال الحصون والأبراج التى شيدتها القبائل تأمينا من الغزو شاهدة على ذلك।

التأثير الكبير لشبه القارة الهندية على مجمل الأوضاع الإقتصادية والثقافية فى الخليج والأمثلة كثيرة منها أن العملة الأكثر تداولا فى هذه الدويلات حتى عهد قريب كانت الروبية الهندية وطوابع البريد كانت كذلك هندية وكثيرمن الخليجيين كانوا يتكلمون الهندية والأردية وتداخلت كلمات كثيرة فى لهجاتهم المحلية منها ألفاظ مثل سيدا ( بمعنى على طول ) ودريشة ( بمعنى شباك ) وغيرها، كما كان الخليجيون يدرسون فى الهند ويتعالجون فيها، وما زال لهذا الوضع حضورا قويا فى معظم هذه الدول.

بإستثناء التأثر بالهند كان التأثير العربى البارز لمصر وإن حصر هذا التأثير فى الجانب الثقافى فقط مثل التأثر باللهجة المصرية وغلبتها على باقى اللهجات العربية وكذلك من الناحية السياسية أثناء المد الناصرى ومساندته لحركات التحرر فى هذه المنطقة وإحتوائه لكثيرين من شبابها الدارسين وأيضا لإرساله الكثيرمن المعلمين إليها.

وبعد أفول الإمبراطورية الإنجليزية بعد حرب السويس، حاولت انجلترا ترتيب أوضاع الخليج تمهيدا للإنسحاب العسكرى منه، وذلك بقيامها بإزالة الحكام الأكثر تخلفا ورجعية بعد إشتداد الثورة ضدهم وإحلال جيل من الشباب الأكثر تفتحا وارتباطا بالغرب محلهم، حدث هذا فى سلطنة عمان من خلال إنقلاب سلمى تولى فيه قابوس بن سعيد مكان أبوه سعيد بن تيمور وأيضا فيما كان يعرف بالإمارات المتصالحة بإقالة شخبوط بن نهيان واحلال الشيخ زايد مكانه وهكذا الحال فى قطر والبحرين.

وعودة سريعة الى الوضع الحالى لهذه الدول التى قطعت مشوارا لا بأس به على طريق النهضة والتطور نجد أن العمالة الآسيوية وخاصة الهندية منها ما تزال تشكل المساحة الرئيسية لسوق العمل بها، يتوافق ذلك مع صغر حجم سكانها وإعتمادها بشكل كبير على تلك العمالة، وفى إحصائية نشرتها منظمة العمل العربية أن العمالة الوافدة تشكل 80% من سكان دولة الإمارات و 72% من سكان قطر و 63% من سكان الكويت بينما تنخفض فى بلدان مثل عمان 27.3% والسعودية 32.1% والبحرين 38.2%، وذكرت الدراسة أن القطاعات الإنتاجية الرئيسية والخدمية منها تحت سيطرة هذه الفئات، ويشكل الهنود وحدهم ما نسبته 53.3% من هذه العمالة، بينما تشكل العمالة العربية نسبة لا تزيد عن 12%.

وإذا ما أضفنا الى ذلك أن هناك أكثر من مليون وافد يعيشون بصفة غير شرعية وبلا أوراق ثبوتية ويعاملون معاملة الرقيق بلا أى حقوق لهم فإنه يتضح لدينا ضخامة هذه المشكلة.

ما أن تطأ أقدامك إحدى المدن الخليجية صغرت أو كبرت، فى الجبل أو فى الحضر، حتى تفاجأ بكثافة الوجود الآسيوى وخاصة الهندى منه، فى جميع الأماكن إن بيعا أو خدمات أو صناعة أو تجارة، وفى المساء تشاهد نزاحما منهم على شركات الصرافة وتحويل الأموال، هذه الفئات التى تقوم بتحويل مكتسباتها بشكل شبه يومى خوفا من امكانية الإستيلاء عليها من الغير، وهذه الإمكانية قائمة وخاصة من بعض الخليجيين وذوى النفوذ تحديدا، حدث مرة أن أخبرنى عامل بنجالى يعمل فى إصلاح السيارات وهو يبكى أن أحد الخليجين إستولى على حصيلة عمره بحجة إستثمارها وحين لجأ الى مخفر الشرطة شاكيا قال له الضابط الخليجى انه جاء من بلده بلا مال ويمكنه العودة اليها كذلك وأن ما حصله من أموال إنما هى من جيوبهم، ونظرة الى حجم هذه التحويلات التى تقوم العمالة الوافدة بتحويلها سنويا نجدها حوالى 60 مليار دولار كما ذكرذلك وزير العمل البحرينى الدكتور مجيد العلوى.

وكما أن للمشكلة شقان أحدهما يخص دول الخليج ذاتها والتى تعانى من هذا النزيف المستمر لإقتصادها من جراء التحويلات المستمرة، وأيضا من إرتفاع نسبة البطالة بها نتيجة تشبع سوق العمل المحدود بالعمالة الوافدة واستكناف كثير من الخليجيين القيام بالأعمال اليدوية والصغيرة ( سائقون، زراع، حلاقون، كوائى ملابس، عمال بناء، عمال بلدية، خدم .....وعشرات المهن الشبيهة)، وتشوه البنيان الثقافى بهذه العمالة الكثيفة، ويبلغ حجم البطالة فى دول الخليج نسبة منذرة بالخطر حسب تقرير منظمة العمل العربية فإن معدل البطالة في السعودية نحو 15%، وفي سلطنة عُمان 17.2%، وفي قطر 11.6%، وفي الإمارات العربية المتحدة، وقد ذكرت دراسة أعدتها جامعة الشارقة العام الماضي أن 32.6% من الإمارتيين و47.7% من الإماراتيات هم خارج منظومة العمل. وفق ما ذكر في موقع (ArabianBusiness.com). وذكر منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في العام 2005 أن نسبة البطالة بالدول العربية مجتمعة بلغت نحو 15%، ولكن تبقى نسبة البطالة فى دول الوفرة الخليجيجية عالية جدا بكل المقاييس.

الجانب الاخر من القضية هو ظروف تشغيل هولاء الوافدون وظروف معيشتهم، فمعظمهم يسكنون فى شبه كوميونات منعزلة، فرادى بدون اسرهم، وفى ظروف حياتية غير آدمية من أجل توفير القليل الذى يستطيعون به إعالة أسرهم فى بلدانهم، ويخضعون لدرجات قصوى من استغلال الكفيل لهم وخاصة العمالة المنزلية، وظاهرة الكفيل هى نوع من الإستعباد لا أظنه موجودا الا فى هذه الدول، فبموجب حق الكفالة يقوم الكفيل بحجب جواز سفر العامل ومنعه من السفر الا بموافقته، كما انها تمكنه من التحكم فى هذا العامل من ناحية ساعات العمل والحرمان من الأجر لشهور طويلة، ولا يجد العامل من ينصره غالبا إذ أن مكاتب العمل تحابى الكفلاء خاصة ذوى النفوذ منهم، ولخوف العامل من إغضاب الكفيل الذى يمكنه إضراره بشتى السبل و أقلها إنهاء عقده بدون صرف حقوقه وترحيله الى وطنه ووضعه فى قوائم الممنوعين من الدخول، وهناك ضغوط دولية لإلغاء نظام الكفالة من عدة منظمات على رأسها"منظمة العمل الدولية"، وقد أقرت مملكة البحرين إلغاء هذا النظام ولكن تبقى العبرة بالتطبيق.

على أن المشكلة ومحاولات حلها تتفاوت من دولة لأخرى، ونرى أن محاولات استبدال العمالة الوافدة باخرى وطنية ايضا متفاوته فى هذه البلدان، فقد نجح بعضها فى تحقيق معدلات توطين جيدة من خلال برامج وخطط تعمل على تخريج كوادر وطنية أو سن قوانين تمنع تشغيل العمالة الوافدة فى بعض المهن، كما تلزم الأفراد والشركات المحلية والأجنبية بتشغيل نسبة محددة من ابناء البلد فى وظائفها، وذلك ما حدث فى سلطنة عمان حيث أنشأت العديد من المعاهد والكليات لتخريج كوادرعمانية مثل المعلمين والممرضات والفنيين والفئات المهنية الأخرى حتى أكملت أو كادت إحتياجاتها من هذه الفئات، وأيضا أصدرت القوانين المتتالية بفرض منع العمل للأجانب فى كثير من المهن مثل الصيد وسياقة سيارات الأجرة وبيع المواد الغذائية والملابس وغيرها، ولكن مع تزايد حاجة هذه الدول لمزيد من العمالة خصوصا الماهرة منها نظرا لتحسن أسعار النفط وتوسعها فى المشاريع المعمارية والصناعية والبنية الساسية فإنها تستقدم اعداد متزايدة من هذه العمالة.

على أن هناك جوانب أخرى مختلفة لتأثير العمالة الوافدة على بنية وتركيبة المجتمع ليس أقلها الجانب الثقافى وسهولة تأثر الخليجيين بالعادات الوافدة من شبه القارة الهندية فى طعامهم ولباسهم وكثير من عاداتهم والأكثر تأثرا هم الأطفال الذين يتركهم آبائهم للخادمات الآسيويات بدياناتهم ومعتقداتهم المختلفة واللاتى يجهلن فى الغالب اللغة العربية، كما أن الظروف الإجتماعية المغلقة فى هذه البلاد والكبت الجنسى والحرمان ومنع الإختلاط يدفع العديد من الشباب للإعتداء الجنسى على الخادمات من اللواتى لا حول لهن ولا قوة وليس من السهل عليهن اللجوء للقانون لحمايتهن، حتى الذين يعملون فى وظائف فنية عالية كالأطباء يتم عقابهن فى حالات كثيرة بالجلد والحبس فى قضايا معظمها كيدية وملفقة.

ويرفض معظم الخليجيون استبدال العمالة الآسيوية بأخرى من البلاد العربية وذلك لرخص أجورها من ناحية وسهولة السيطرة عليها ويسمون المصريين بالفراعين الذين ما يلبثون أن يتمردوا على هذه الأوضاع، لذا فإن العمالة الآسيوية تزداد فى هذه الدول خاصة مع إستمرار إنتعاش إقتصادياتها بفعل إرتفاع أسعار النفط، لتبقى الكلمة الأكثر شيوعا فى الشارع الخليجى هى ( ما فى معلوم عربى ).

فى ذكرى صلاح حسين..شهيد الفلاحين


" فوق كل مائدة طعام .. يوجد شئ من جهد فلاح جائع "

صلاح حسين

مثل كل عام منذ اثنتين واربعين سنة وتحديدا فى الثلاثين من ابريل يقام الاحتفال السنوى فى قرية" كمشيش " مركز تلا محافظة المنوفية بذكرى واحد من شهداء الفلاحين وشهداء الشعب المصرى هو المناضل "صلاح حسين" الذى دفع حياته دفاعا عن أبناء وطنه الأكثر فقرا ومعاناه.

وتأتى الذكرى هذا العام مشوبة بجو من الحزن والمرارة فقد أضيف الى قائمة شهداء كمشيش"وسيم" الإبن الأصغر للشهيد "صلاح حسين" والمناضلة "شاهندة مقلد", والذى قضى نحبه فى حادث أليم بموسكو لم تزل تفاصيله غامضة.

لقد اغتيل صلاح حسين بيد الإقطاع فى لحظة تاريخية حاسمة, حين بدأت مظاهر الترهل على التجربة الناصرية, والنتائج الغير متوقعة للخطة الخمسية الأولى (60-1965) , وإكتمال المؤامرة التي استدرجت لها مصر فى 1967, فى تلك الأثناء بدأت القوى الرجعية تستعيد بعض نشاطها لتتآمرعلى الحركة الوطنية, ومن ذلك مؤامرة الإخوان فى 1965, وذلك بعد توريط النظام المصرى فى حرب ضروس فى اليمن.

لقد عمل صلاح منذ تشكل وعيه على البحث عن بوصلة تساعده في تحديد الطريق الواضح للعمل, وخاض فى ذلك تجارب عديدة ومتناقضة من جماعة الإخوان المسلمين إلى الفكر القومي المتطرف ممثلا بحزب مصر الفتاة إلى الإيمان الراسخ بفكر جمال عبد الناصر لينتهي به المسار للوقوف على مشارف الماركسية, بعد أن تعرفت رفيقة حياته وابنة خاله شاهندة على الفكر الماركسي من خلال مدرستها فى شبين الكوم"وداد متري"، .

بعد أن عاد صلاح من فلسطين ومشاركته فى صفوف الفدائيين العرب"حركة الضابط أحمد عبد العزيز" إتجهت أنظاره الى الداخل، وتحديدا الى قريته "كمشيش" حيث يوجد نموذج من أبشع أنواع الإقطاع فى ذلك العصر ممثلا فى عائلة الفقى وعلى رأسها عميدها " صلاح الفقى"، حيث كانت مديرية المنوفية تحتلها مجموعة من العائلات الإقطاعية عريقة فى خيانتها للوطن منذ أحداث الثورة العرابية ممثلة فى عائلات الفقى وعبد الغفار وأبو حسين وغيرها، كانت هذه العائلات تمتلك الأرض ومن عليها من فلاحين بسطاء، لها خفرائها ومرتزقتها وسجونها وتأخذ القانون بيدها، وتقيم أبشع أنظمة السخرة سطوا فكان الفلاحين يرغمون على العمل فى أرض الإقطاعى بدون أجر ويجبرون على تقديم بناتهم للعمل فى قصورهم.

بدأ الشهيد مسيرته بين طلاب قريته وهم مجموعة من الحالمين الثوريين الذين عاصروا قهر عائلة الفقى وجبروتها حيث كان للعمدة "صلاح الفقى" سطوة شديدة، يمنعهم من ارتداء الأحذية والطواقى وعدم المرور من أمام قصره، ويحارب محاولتهم التعليم بإغلاقه المدرسة الوحيدة فى القرية، لذا كان توقهم شديدا للتخلص من هذا الجبروت والثورة عليه لذا فقد تحولقوا حول صلاح بصفته اكثرهم خبرة وثقافة ويملك صفات القيادة، يقول صلاح حسين واصفا هذا المشهد(.. هبت روح الثورة عاتية على مجتمعنا القديم وخرج الطلبة في شوارع شبين الكوم يهتفون "إلى أنقرة يا ابن المرة" وذلك عقب هزيمتنا في فلسطين، وكان لا بد أن نتأثر بهذا التيار وكان الطلبة في هذه الحالة هم القوة الثورية التي يمكن أن تبتدئ العمل الثوري..). .

كانت المشكلة الكبرى لهذه المجموعة الثورية من الطلاب كيفية الإلتحام بالطبقة التى يسعون الى تحريرها وهى الفلاحين، ولم يكن ذلك ممكنا فى ظل الوضع القائم الا من خلال معارك حقيقية بينهم وبين الإقطاع، وحاولوا إيصال صوتهم من خلال تحريض الفلاحين ضد نظام السخرة، وانتهزوا مناسبة عزاء فى القرية ليرتفع صوت صلاح حسين فى سرادق العزاء (.. أيها الفلاحون ارفضوا السخرة طالبوا بأراضيكم المغتصبة عيشوا أحرارًا فوق أرضكم..)، وكانت المرة الأولى التى يجرؤ فيها صوت على هذه المواجهه، ويستجيب الفلاحين لهذا النداء وترفض اعداد كثيرة منهم الذهاب الى أرض الوسية، ليقوم العمدة الإقطاعى بالقبض عل صلاح حسين ورفاقه وايداعهم سجنه وتعذيبهم ولكنهم يستطيعون إيصال صوتهم الى المديرية ليحدث تدخل وتحقيق يقال على أثره العمدة ولكنه سرعان ما يعود مرة أخرى محتميا بنفوذه وسلطته، ولكن كانت النتيجة هى تحقيق انتصار جزئى للفلاحين فى انهاء السخرة أو القنانة وفى نفس الوقت اكتساب صلاح حسين ورفاقه ثقة الفلاحين الفقراء والذين أطلقوا عليهم إسم " الأحرار".

تفتحت شهية الفلاحين لخوض الصراع ضد مغتصبيهم فكانت المعركة الثانية فى عام 1953هى ما عرف بإسم "معركة الملال" وهى قناة صغيرة شقها الإقطاع داخل اراضى الفلاحين لتمرير مياه الرى الى أراضيه، فقرر الفلاحين القيام بردمها، وحدثت معركة كبيرة بينهم وبين أعوان الإقطاع إنتهت بإصابة 17 فلاحا وفلاحة، قبلها استطاع الفلاحين هدم سد أقامته أسرة الفقى لحجز المياه عن الفلاحين لتبوير أراضيهم وتسهيل الإستيلاء عليها فيما عرف بمعركة السد، وعندما فشل أعوان الإقطاع وخدمه فى التصدى لحركة الفلاحين استعانوا بمرتزقة من ما يعرف بالأعراب الذين كانوا منتشرين هم والغجر فى الريف المصرى وكان هؤلاء الأعراب يتم إكترائهم للقيام بعمليات القتل وغيرها من العمليات الإجرامية ودارت معارك بينهم وبين الفلاحين كانت تنتهى عادة بتدخل السلطات ضد الفلاحين والقيام بنشر الهجانة على ظهور الجمال وحظر التجول.

وجاء تدخل حركة يوليو من خلال تشكيل لجنة وساطة برئاسة اليوزباشى " أنور السادات" والذى ظهر انحيازه واضحا لعائلة الفقى مما سيكون له أثر فى المستقبل على علاقته بعد توليه الرئاسة مع هذه الحركة، وعلى كل حال فإن موقف نظام يوليو من الحركة الثورية لفلاحى كمشيش لم يكن وديا فى الغالب وحتى بعد حل الإتحاد القومى وتأسيس الثورة للإتحاد الإشتراكى كحزب وحيد لها فقد تضمنت قوائم العزل السياسى عام 1952عائلة الفقى والقيادات الفلاحية والأحرار فى آن واحد وعلى رأسهم الشهيد صلاح حسين فى الوقت الذى كانوا ( أى الفلاحين) يعتبرون أنفسهم الرديف الثورى لحركة يوليو مما ترك مرارة وإحباطا لهم وتأتى كلمات صلاح حسين لصديقه وسيم خالد معبرة عن ذلك فى رسالته التى يقول فيها (.. أفبعد هذا وفي فجر الثورة الاشتراكية التي ناضلنا من أجلها نقف والإقطاعيين في حظيرة أعداء الشعب. محال أن يساوي العزل بين من خاضوا المعارك حماية لمؤخرة الثورة وبين من كان يروج الإشاعات عن عودة الملكية..)، وتقول شاهندة فى رسالة منها لجمال عبد الناصر( ثورة 23 يوليو مستمرة في التشوه بمزيد من مهادنة الإقطاع.. الحقيقة واضحة لا تسمحوا بتجاهلها..).

ورغم وقوف صلاح حسين ورفاقه الى جانب الثورة وصدور قانون الإصلاح الزراعى وعودة معظم الأراضى التى إستولى عليها الإقطاع الى فقراء الفلاحين وصدور قوانين التأميم ومعاداة الإستعمار والإمبريالية فإنها لم تستطع حماية الشهيد صلاح حسين من أن يتم إغتياله على يد الإقطاع وزبانيتة عشية إجتماعه بامين الفلاحين فى الإتحاد الإشتراكى " عبد الحميد غازى" وتسليمه إياه تقريرا عن تحركات الإقطاع والثورة المضادة فى الريف المصرى.

لقد تحولت ذكرى شهيد الفلاحين "صلاح حسين" الى مؤتمر سنوى للقوى والحركات الثورية وذلك فى قريته كمشيش حيث ينعقد هذا المؤتمر على مدى يومين يتم خلاله عرض ومناقشة أوراق خاصة بالحركة الفلاحية وضعها وآفاق تطورها فى اليوم الأول وصبيحة اليوم الثانى، وفى المساء يقام إحتفال تأبينى يضم نخبة من الشعراء والفنانين وكم شهدت هذه الأمسيات أصوات ضمت عبد الصبور منير والأبنودى وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى وعشرات غيرهم يمثلون النبض الحقيقى للشعب المصرى.

عاشت حركة الشعب المصرى وكافة الشعوب المضطهدة عاليا حتى النصر الأخير والنهائى على كل مضطهديهم

والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار