الإنتفاضة هى فعل جماهيرى مختلف نوعيا عن الهبات الجزئية بفعل شمولها وتعدد اشكال فعلها من المظاهرات والإعتصامات ومختلف اشكال العصيان المدنى، وتتسم غالبا بمواجهات عنيفة مع أجهزة النظام وتمتد زمنيا لمدة تتراوح بين عدة أيام " 18-19يناير" وقد تطول الى عدة شهور أو سنوات " الإنتفاضة الفلسطينية".
والإنتفاضة تغير نوعى فى رد فعل الجماهير تجاه مستغليها، وهى لا تؤدى بالضرورة الى ثورة، ولكن الثورة دائما تبدأ فى إطار إنتفاضة، والثورة بمفهومها العلمى يعنى الإطاحة بطبقة اجتماعية مسيطرة وإحلال طبقة أخرى مكانها تنفيها، هى عملية طويلة وواعية وتحتاج الى قيادة تملك رؤيا واضحة وقادرة على قيادة الجماهير فى لحظة معينة لتحقيق هذا الهدف.
تمر مصر منذ سنوات بحالة إحتقان شديد على كافة الصعد وبين مختلف الطبقات الشعبية من عمال وفلاحين وشرائح برجوازية صغيرة ومتوسطة، والتى تشبه فى مظاهرها الحالة المصرية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى ومقدمات ثورة 1919، أو الوضع فى عام 1951 ومقدمات حريق القاهرة ، أى أن مصر حبلى بشيئ كبير قادم والمجتمع يمور بقلق عميق ومظاهر شتى توحى للجميع بأن الطوفان يطرق الأبواب.
مما يسبب الخوف والقلق الشديد أن الحركة الجماهيرية تفتقد قيادة حقيقية تمسك بوصلتها وتوجهها الى مسارها الصحيح، فى ظل غياب حزب ثورى للطبقة العاملة يقودها وتفكك وتشرذم الحركات الجنينية الثورية و غياب التنظيم اليسارى القادر على استيعاب حركتها وضم صفوفها، ناهيك عن الفوضى الشديدة فى صفوف الحركات التى تدعى تمثيل وقيادة هذه الجماهير، وتحلل بقايا التنظيمات الشيوعية منذ انهيار الإتحاد السوفيتى وانكفاء كوادرها وتوزعهم على منظمات المجتمع المدنى والجمعيات الحقوقية الممولة فى أغلبها من مصادر غربية واستعمارية وبعضها صهيونية.
وفى ظل تفاقم الأوضاع الإقتصادية والمعيشية للطبقة الوسطى وما دونها مع نمو وتوحش الشرائح العليا للبرجوازية ومع مزيد من تركز الثروات بأيدى شريحة متنفذة تمثل تحالف رجال الأعمال مع السلطة، وفى غياب أى أمل فى غد أفضل تكرس الإنفصال بين الشارع من جهه والنظام من جهه أخرى، لتزداد نذر الإحتقان وتنبئ بانفجار قادم.
يتمثل اليأس من امكانية التغيير لدى الجماهير فى استمرار الحكم العسكرى بأشكاله المختلفة لمدة تزيد عن ستة عقود، حوالى نصف هذه المدة فى ظل حكم مبارك الذى حكم مصر لست دورات متصلة تم فيها تداول 5 رؤساء أمريكيين و 6 رؤساء فى إسرائيليين، وفى حماية أجهزة الأمن من شرطة وأمن مركزى وأجهزة مخابرات ومباحث أمن دولة، ومن ورائهم القوات المسلحة بكافة فروعها وأجهزتها.
الذى أعنيه أن هناك مظاهر متعددة لنذر هذه الإنتفاضة، من إحتقانات متواترة فى الشارع المصرى، تعبر عن نفسها فى الهبات الصغيرة المتكررة والمظاهرات والوقفات الإحتجاجية والإضرابات، مع تعدد صحف المعارضة والسماوات المفتوحة والإنترنت من فيسبوك وتويتر والمدونات وغيرها مما انتجته التكنولوجيا الحديثة، والتى تصب جميعها فى دولاب الإنتفاضة.
يتشابه هذا الوضع فى مصر مع الوضع فى أندونيسيا قبل الإطاحة بسوهارتو، حيث طول مدة حكم الرئيس لأكثر من ثلاثين عاما من جهه، وإستشراء الفساد مع ضلوع أبنائه وعائلتة فيه من جهه أخرى، وفى ظل ازمة اقتصادية خانقة، وتدخل واملاءات البنك الدولى، ووجود انقسام طبقى حاد فى المجتمع، اجتمع كل هذا مع عدم وجود حزب طليعى للطبقة العاملة بعد أن تم تصفية الحزب الشيوعى الأندونيسى فى 1967والذى زادت عضويته عن 3 مليون عضو وكان يعد من أكبر الأحزاب الشيوعية فى العالم خارج المنظومة الإشتراكية.
لقد شهدت العقود الثلاث الاخيرة عدد كبير من الانتفاضات الجماهيرية فى جميع قارات العالم نجحت فى الاطاحة بعدد لا بأس به من الديكتاتوريات فى اوروبا الشرقية ضد انظمة الحكم الستالينية، بدأت ببولندا والمجرو إنتهت بسقوط جدار برلين وهيمنة النظام الرأسمالى فى الجزء الغربى من المانيا، وسقطت هذه الأنظمة عبر انتفاضة الجماهير التى عانت القمع والدكتاتورية والتخلف الإقتصادى، لكن سقوط هذه الأنظمة لم يؤدى الى تحررها وتم استبدال الطبقات الحاكمة بأشكال أكثر غبنا واستغلالا.
وفى العقد الأخير من القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة حدثت مجموعة متفرقة من الإنتفاضات عبر العالم شرقه وغربه إستطاعت الإطاحة بعدد من أعتى الديكتاتوريات، ففى أمريكا اللاتينية حدثت إنتفاضات فى كل من الأرجنتين والإكوادور وشيلى وبوليفيا وفنزويلا، وفى عدد من جمهوريات الإتحاد السوفيتى السابق فى جورجيا واوكرانيا وقرغيزيا، وحتى فى جزر مدغشقر فى افريقيا.
المشكلة أن معظم هذه الإنتفاضات الجماهيرية الواسعة والعنيفة فى هذه البلدان والتى نجحت فى الإطاحة بنظم حكم شديدة التخلف لم تستطع فى النهاية الوصول الى نهاياتها المظفرة، ولكن تم استبدال جناح من السلطة الحاكمة بجناح آخر.
نعود الى الواقع المصرى بؤرة اهتمامنا الأساسى، فكما يلاحظ الجميع أن سحب الإنتفاضة تتجمع سريعا، وحركات الاحتجاجات تتصاعد، والعديد من القوى السياسية والتنظيمات الراديكالية تحاول أن تلعب دورا مؤثرا وفعالا، ابتداءا من حركة "كفاية" مرورا بحركات سياسية شبابية من 6 ابريل والجمعية الوطنية للتغيير وقوى متباينة من ناصريين و يساريين وقوميين وتيارات دينية على رأسها الإخوان المسلمين، كما تحاول بعض القيادات العمالية تشكيل نقابات مستقلة وتصاعد الصدام بين بعض شرائح عمالية لها مطالب فئوية ورجالات الأعمال والسلطة من جهه اخرى.
المشكلة الأساسية أن هذه القوى غير ناضجة لقيادة حركة اندفاع جماهيرى تملأ الشوارع، والتحكم فى مظاهرات مليونية غاضبة على الأوضاع القائمة، ولا تملك رؤية واضحة للتغيير، الكل يعادى النظام من زاوية رؤية مختلفة بدون اتفاق على رؤية واحدة، لقد انتفضت الجماهير فى 18- 19 يناير 77 ضد رفع الأسعار، وبرغم وجود حركات وتنظيمات شيوعية تحاول تحريك الشارع مما ادى بالسلطة الى اتهام الشيوعيين بإثارتها، ولكن تم اجهاض هذه الحركة سريعا بمجرد العدول عن قرارات رفع الأسعار، والقبض على بعض القيادات.
إن ما هو قادم أشد خطورة، فالوعى الجمعى للجمهور حانق على تردى مستوى معيشته، غاضب من ارتفاع الأسعار، راصد لحالات الفساد التى تزكم الأنوف، ولديه عشرات الأسباب المختلفة التى تدعوه الى الثورة، ولكن الغضب وحده لا يؤدى الى ثورة فى غياب الوعى وافتقاد القيادة الثورية الملتصقة بالجماهير والمؤثرة فيها.
ما يقلق هو عدم وجود تنظيم ثورى قادر على التحكم فى حركة هذه الجماهير وقيادتها وتوجيه حركتها الى الطريق الصحيح، مع الوضع فى الإعتبار ردود الفعل العنيفة للسلطة الحاكمة ودور الجيش المرشح للتدخل السريع لضبط الأوضاع كما حدث عام 1977، مع علمنا ان الجيش يلعب دائما دورا رديفا للسلطة، مع التسليم بدور قوى وعنيف للمهمشين والعاطلين وما يسمى بالبروليتاريا الرثة.
إن الزعم بأن دور الثوريين هو توعية الجماهير وتعليمها هو قول مثالى ومتعالى على هذه الجماهير، وايضا القول ان الحركة تخلق قيادتها هو إسلوب قدرى، ولكن المطلوب فى نظرى هو وجود منظمة ثورية قائدة تلتصق بالجماهير وتتعلم منها وتساهم فى تطوير وعيها من النضال معها وليس من الغرف الضيقة والإكتفاء بوضع الخطط والبرامج.