ليس جديدا ما يقوم به قطاع لا بأس به من المثقفين ذوى الأصول اليسارية والليبرالية ممن يعرّفون أنفسهم بالعلمانيين بمحاولة إقحام أنفسهم فى الجدل الدائر بين الدينيين وخاصة الإسلاميين منهم لفرض تفسير للإسلام أكثر حداثة وإستنارة، ويقاتلون فى سبيل ذلك بكل ما أوتوا من قوة، وكأنما هو فرض عين أو "جهاد" كتب عليهم، معّرضين أنفسهم لمختلف أنواع التهديد، أبسطه المقاضاة فى المحاكم، ومصادرة كتاباتهم مرورا بإتهامهم بالإلحاد ومحاولة تطبيق الحسبة عليهم وتطليق زوجاتهم منهم، ليصل الأمر الى التهديد بالقتل، وربما تنفيذ هذا التهديد فعليا إما بالإغتيال كما حدث للمفكر" فرج فودة "، أو بالإعدام كم حدث مع " محمود طه " فى السودان.
وهناك أمثلة كثيرة للخلافات فى تاريخ الدولة الإسلامية منذ بداية الصراع على السلطة فى سقيفة بنى ساعدة مرورا بالفتنة الكبرى ومصرع الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" الى القتال بين على ومعاوية، وخروج السيدة عائشة وطلحة والزبير لحرب الإمام على ، والتحكيم وإنشقاق الخوارج وحربهم ضد الإمام على، وما حدث بعد ذلك من ظهور الفرق المختلفة ونشاطها فى مواجهة الدولة وفى مواجهة بعضها البعض، والتكفير بالكبيرة والصغيرة و المعصية، وإثارة قضايا وهمية لتأجيج هذه العداوات مثل قضية خلق القرآن، والصراع بين المتكلمة والمعتزلة، وقتل المخالفين كإبن المقفع والحلاّج وغيلان الدمشقى وغيرهم.
ولكن ما كان يحدث فى ذلك الوقت كان مختلفا عما يحدث الآن، فقد كان الخلاف أو الصراع على أرضية واحدة، وله مرجعية واحدة، كان بالأساس خلاف سياسى يتم الباسه لباسا فقهيا ودينيا، بينما ما يحدث فى الوقت الحالى هو أن البعض من ذوى المرجعية العلمانية خارج الاطار الدينى يعملون بجهد لإعادة تفسير الأصول الدينية لإثبات أن الإسلام فى جوهره هو دين تقدمى لا يعادى المنطق السليم ويقف فى صف الحريات الفكرية وحقوق الإنسان وتحرر المرأة والأقليات الدينية ، معتمدين فى مواقفهم بشكل أساسى على المرحلة المكية حينما كان الدين لا يزال ضعيفا ويحاور الرسول المشركين من داخل ديارهم باللين والموعظة الحسنة، حيثما تكثر الإشارات الى الحقوق الفكرية للآخر فى الإختلاف والتسامح وعدم الإكراه فى الدين، ولكن سرعان ما تغيرت هذه المعادلة إبّان "دولة الرسول" بالمدينة، بعد أن تقّوى المسلمون خارج سيطرة قريش، وتغير مفهوم الدعوة الى الدين بحمل السيف والجهاد فى مواجهة الكفار، عندئذ تغير الخطاب الدينى الى لغة المنابذة واللجاجة فى الخصام والعوة الى نفى الآخر، وشن الغزوات على مشركى قريش وحلفائهم، والعمل على إستئصال اليهود من يثرب.
بهذا المعنى يصبح خلاف العلمانيين مع الإسلاميين حول ماهية الإسلام، ومحاولة إظهار الوجه الناصع للإسلام بالمعنى العصرى، وبالتأكيد القاطع لن يكون للعلمانيين الكلمة الفصل فى تحديد المفهوم الحقيقى للإسلام، بل يؤدى ذلك الى مزيد من التنازلات من جانب العلمانيين لإثبات أنهم مسلمون حقيقيون يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وما أنزله على عبده.
دعنى أكون أكثر تحديدا فى هذا الشأن، وأتحدث فيما أعرف أو أحاول أن أعرف، ما أقصده هنا هو الإسلام السنى والذى يصبغ المنطقة العربية بشكل عام، هذا التيار الدينى العريض الذى آل فى تجلياته الى ما يعرف بالإسلام الوسطى والذى يؤمن به أغلب سكان منطقتنا وتمثله التيارات الدينية الواسعة الإنتشار كالسلفيين والمتصوفين والإخوان وأنصار السنة ومن لف لفهم، هؤلاء الذين وقف فهمهم للدين بعد الإنحدار الذى وصلنا اليه الى إختزال القرآن فى آيات الأحكام وإختزال الدين فى الفقه، وإختزال التراث الإسلامى الذاخر فى الدين والتدين والشكليات، مبتعدين عن اشراقات اسلافهم فى الفن والموسيقى والفلسفة ومختلف جوانب الحياة.
لقد أدى فشل المشروع القومى وما آلت اليه حركة التحرر الوطنى العربية وخاصة بعد هزيمة 67 وانهيار الإتحاد السوفيتى الى تراجع حاد للأفكار القومية والى صعود للتيارات الإسلامية بمختلف تلاوينها وتغلغلها فى الشارع العربى والإسلامى مما أدى الى إرتباك شديد فى الجانب العلمانى المتمثل فى الأفكار والرؤى اليسارية والقومية والحركات الوطنية عموما مما دفع البعض الى الإنحياز بشكل كامل الى الجانب الآخر من أمثال مفكرين قوميين مثل محمد عمارة وطارق البشرى وماركسيين سابقين مثل المرحوم عادل حسين ومحاولة البعض الآخر التنظير لوجه أكثر إستنارة للإسلام كما يفعل أمثال سيد القمنى وسعيد العشماوى ونصر أبو زيد وآخرين، بينما تحول شيوعيون أقحاف مثل الدكتور رفعت السعيد الى الهجوم الحاد والمستمر على أفكار وممثلى التيار الإسلامى مضيعيين وقتهم وجهودهم ولكنهم للأسف يستدرجين الى الهجوم من نفس الخندق محاولين المزايدة على هذا التيار بأنه يشوه الإسلام ولا يعبر عن الوجه الصحيح له، بما يعكس ازمة حقيقية لهذا التيار وكأنما فقد القدرة الفعلية على التعبير عن نفسه أو إثبات وجوده الا من خلال مناوأة هذه الأفكار.
إن محاولة الرد على أفكار فصيل مثل الإخوان المسلمين والتى عبّر عنها مؤسسه "حسن البنا" بالقول ( إن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف)، هذه المقولة التى يعززها الكتاب والسنة والتاريخ، بالقول أن البنا كان ارهابيا أو خارجا على صحيح الدين، كلام لا يجد آذانا صاغية فى الشارع المتدين، الذى يتشكل وعيه الدينى من آراء الفقهاء والمشايخ وخطباء الجمعة بعيدا عما يقوله العلمانيين وفى رأيى المتواضع أن تأثير كلام شخص مثل أحمد رائف من داخل الجماعة هو أقوى بعشرات المرات من كل ما يدبجة قلم مفكر مثل الدكتور رفعت السعيد مع احترامى له، ولعل رأى الكاتبة المغربية "رجاء بن سلامة" (كنت أعتقد دائما أنّ شأن المجادلين للإسلاميّين من داخل المنظومة العقائديّة والفقهيّة هو شأن النّائميْن في فراش واحد ولهما غطاء واحد، فكلّ منهما يجذبه إلى نفسه) هو الأصدق تعبيرا عن هذا الواقع.
وأحيانا ينجرّ هؤلاء العلمانيين الى البحث عن ثغرات ربما تكون موجودة وحقيقية فى بعض أحكام الإسلام أو فى تاريخ الرسول والخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين والصحابة، للغمز والنيل من هذه الشخصيات بشكل يبدو خبيثا، مما يؤدى الى تصويرهم للشارع كمن يحاولون الصيد فى الماء العكر، ويدلل الإسلاميين على ذلك بإحتفاء المواقع المعادية للإسلام وأصحاب الديانات الأخرى بمثل هذه الكتابات والسعى الى نشرها بصورة واسعة.
ولعل أوضح الأمثلة على هذه الإشكالية هى الموقف من الحجاب، فبينما يجادل العلمانيون أن الإسلام لم يفرض زيا معينا على المرأة، بل كان يخاطب أمهات المسلمين فقط بما ذكر فى القرآن من القول (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيْمَاً ) وربما أدى جدل العلمانيين حول هذه المسألة ولجوء أصحابها إلى قراءة النصّ القرآنيّ وتأويل مفهوم الحشمة المقصود فيه، وهذه التأويلات لا تصمد برمّتها من الناحية الفعليّة أمام فتوى لشيخ كالقرضاوى أو مفتى الجمهورية أو غيره يذكر فيها بشرعية الحجاب واعتباره فرضا دينيا الى تبخر مثل هذه الأقوال، وما استفحال ظاهرة الحجاب وانتشار النقاب فى المجتمع بالشكل الذى لا تخطأه عين الا دليلا على فشل كل محاولات التصدى لهذه الظاهرة من العلمانيين، لنتذكّرْ هنا أنّ قضيّة الحجاب لا تنطلق عند أصحابها من قضيّة الحقّ بل الامتثال للتكليف، أما تحوّلها مؤخراً إلى ظاهرة فيتعلّق ببنائها كرمز ثقافيّ سياسيّ ينطوي على هيمنة الإسلام على الحياة العامّة.
إن الواقع المعاش، والأوضاع الإقتصادية هى من يلعب الدور الرئيسى فى مواجهة مثل هذه الدعاوى، ومّما لا شكّ فيه أنّ الفتاوى الكثيرة التي منعت عمل المرأة أصبحت غير مؤثّرة إن لم نقل لاغية، وقس على ذلك حقوق المرأة السياسية وقضايا مثل الولاية الكبرى وتولى المرأة القضاء وغيرها تنسحب أمام التطور التاريخى الحتمى، بل ان الكثير من الفتاوى على سبيل المثال فتوى ابن باز بتحريم القول بدوران الأرض حول الشّمس، فهي تتطلّب من العامل بها درجة عالية من الأمّيّة العلميّة، أو درجة أعلى من إنكار ما ثبت للبشريّة جمعاء منذ عدّة قرون، مما يلغى عمليا مثل هذه الترهات.
لقد علمونا كأطباء ان لا ندخل فى جدال دينى حول الكثير من الموضوعات مثل قضية تنظيم الأسرة، بل ان نذكر فقط الحقائق العلمية حول المشاكل المترتبة على تعدد الولادات على صحة الأم والجنين والوضع الإقتصادى للأسرة دون الإستدراج لمناقشات دينية عقيمة، وهذا فى رأيى أحد أسباب نجاح هذا البرنامج.
إن القول بأن الجهد المبذول من العلمانيين فى محاولة إبراز صورة مشرقة للإسلام قد تؤثر ايجابا فى موقف الإسلاميين هو قول خاطيئ، فذلك يؤدى فى الحقيقة الى مزيد من الجفوة، وتخندق كل من الطرفين حول مواقفه، إن تغيير المواقف يأتى أساسا من داخل الظاهرة لا من خارجها، وما حركة الإصلاح الإسلامى فى بدايات القرن الماضى ما كانت لتتم الا على يد مجدد مثل الشيخ محمد عبدة الذى يذكر المؤرخون أنه وأحمد لطفى السيد كانا وراء كتابى قاسم أمين، وإن سلسلة المراجعات التى يقوم بها منظرى الجماعات الدينية لأقوى ألف مرّة مما يكتب سيد القمنى وزملائه .
إن الحل فى نظرى ليس بالإنجرار وراء فتاوى رديئة كرضاع الكبير وبول الرسول تسقط من تلقاء نفسها، ولكن فى طرح سياسى علمى، وجهد حقيقى يرتكز على الحقائق العلمية وحقوق الإنسان والمواطنة وطرح رؤية مستقبلية تحترم عقول الناس ولا تدغدغ مشاعرهم، بدلا من محاولة جذب الغطاء .
No comments:
Post a Comment