كشف الموقف المتصلب للقضاة أعضاء الجمعية العمومية لمجلس الدولة عن المدى البعيد الذى ذهب اليه المجتمع المدنى فى مصر من تمثل وليس تأثر فقط للأفكار السلفية، وصبغها لجميع أوجه الحياة فى مصر والمجتمعات العربية والإسلامية عامة الى درجة صادمة تجعل العلاج صعب جدا وشبه مستعصى، وحتى ما كان يعرف بالنخبة أو الإنتلجنسيا لم تسلم من تبنى هذه الأفكار وأبسط مثال لذلك هو موقف القضاة من رفض تعيين المرأة قاضية متتعللين بحجج ومقولات اسلامية تجاوزتها كثير من دول العالم ومن بينها دول إسلامية عديدة توصف بالتشدد مثل السودان واليمن.
لقد ابتعد المجتمع كثيرا عن افكار الحداثة والتقدم، وأوغل فى الإنغماس فى دهاليز الفكر السلفى المعتق، والحياة حولنا بأكملها شاهد على ذلك، عادات الميلاد والزواج والموت كلها تغيرت ونسخت بأخرى قادمة من الصحراء، سبوع المولود كنا نحتفل به فى طقس شعبى مبهج، الغربال والهون والحلويات وأغانى برجلاتك وياربنا ياربنا تكبر وتبقى زينا، واسمع كلام فلانة ومتسمعش كلام علانة، تحول بقدرة قادر الى عقيقة ولحم، وحتى لم ينسوا أن يفرقوا فيه بين الذكر والأنثى فله شاتين ولها شاة واحدة، حتى الأفراح أصبح معظمها يقام فى المساجد فى اطار فصل كامل بين الجنسين، يجلس الرجال ساكتين كأنهم فى عزاء بينما تردد النساء بعض الأهازيج الدينية، حضرت احد تلك الأفراح وعندما سالت عن رأيئ قلت لهم العروسة "إتزّفت"، وكان هذا رأيي فى الفرح.
حتى الكورة لم تسلم من ظواهر التأسلم، بدءا من تسمية فريقنا بفريق الساجدين، وأن سبب الإنتصارات الكروية هو دعاء الجماهير، وصلوات اللاعبين وليس مستواهم الفنى، وقيل ان ابوتريكة اتصل بالفريق قبل مباراة الكأس وطلب منهم صلاة قضاء الحاجة، وشاهدنا رفع المصاحف فى مواجهة الكاميرات فى المباريات.
عاصرت مرحلة الستينات من القرن الماضى حين كان السفور هو القاعدة وكان الحجاب ظاهرة إستثنائية، أيامها إنتشرت موضة المينى جيب، ولكن كانت الأخلاق أفضل بكثير، والتسامح هو السائد، لم نشاهد حينها التحرش بالنساء كما يحدث الآن، حتى المعاكسات كانت فى إطار رقيق، ولكن كلما أوغل المجتمع فى عملية التدين وطغى الحجاب والنقاب والذقون والجلابيب إزدادت الأخلاق تدهورا، والفساد إنتشارا، وأصبح العنف خاصة ضد المرأة إحدى السمات المميزة ، هل يملك هؤلاء الذين يدعون التدين أن يفسروا لنا أسباب ذلك.
لم أكن أتصور أن الأمر بهذه البشاعة حتى يصل الى من نسميهم صفوة المجتمع، النخبة التى نسميها الضمير الجمعى لنا والمفترض فيها انها تملك الحقيقة، وعنوانها العدالة العمياء التى تمسك بميزان الحق، أن ترفع راية العصيان بكل هذا الإصرار والإجماع مطالبة برفض دخول المرأة بين صفوفهم حتى لا تدنسها، مغلفين رأيهم ببعض المقولات البالية والمتخلفة عن الولاية الكبرى والصغرى المختلف عليها حتى دينيا، والمسموح بها كما ذكرت فى معظم البلدان الإسلامية، ومتظاهرين ببعض المسوح الإنسانية الزائفة مثل أننا نشفق عليها من صعوبة هذا العمل وعدم إتساقه مع طبيعتها الأنثوية التى تحيض وتلد.
إن هذا المنطق المعوج إذا ما مددناه على إستقامته لا يؤدى فى النهاية الاّ الى المطالبة بعودة المرأة الى المنزل تطبيقا لفهم خاطيئ لقوله ( وقرن فى بيوتكن)، والإهدار الكامل لمجمل مسيرة المرأة الى التحرر والمساواة، وحصرها فقط فى وعاء لإمتاع الرجل وحاضنة لإنتاج الأطفال.
لقد صدعوا رؤوسنا طويلا بوضع المرأة فى الإسلام، وكيف أنه كرمها، فى الوقت ذاته فإن جميع ممارساتهم هى الضد تماما، كيف أنهم أول من عارض حقوق المرأة السياسية فى الكويت، وهم الذين يجلدون النساء اللاتى ترتدين حمالات صدور فى الصومال، والذين يرجمون النساء فى ايران وأفغانستان، والأمثلة لا تعد وآخرها رفض مجلس الدولة فى مصر تعيين النساء فى سلك القضاة.
إن الغمامة السوداء لا تلف رؤوس النساء فقط ولكن ظلالها البغيضة أصبحت تعمى عيون المجتمع بأكمله الاّ من رحم ربى.
No comments:
Post a Comment