بداية الحديث عمّا قد عرف فى بعض كتب التفسير عن آيات شيطانية يمكن أن يجريها الشيطان على لسان الأنبياء فقد جاء فى الذكر الحكيم "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلاّ إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم" سورة الحج 52
على أن الحديث المفصّل عن هذا الموضوع يستدعى منّا إلقاء نظرة متفحصة عن ما جرى ذكره فى الآية الكريمة من مسألة النسخ فى القرآن الكريم.
*تعريف النسخ:
النسخ فى المعجم يعنى الإزالة مثل قوله (وإذا بدلنا آية مكان آية) "النحل101" ويعنى إصطلاحا رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر.
فعملية النسخ تقتضى وجود منسوخ وهو الحكم السابق للنسخ وناسخ أى الحكم الأحدث والذى أوقع النسخ,ومن أهم أسباب حدوث العلة فى النسخ هو التدرج فى نزول الأحكام حتى إذا تم تهيأة المجتمع للحكم نسخ ما سبقه من أحكام, مثال ذلك التدرج فى حكم الخمر, وأيضا شرع النسخ للتيسير على العباد مثل قوله تعالى( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا.....إلى آخر الآية)
أقسام النسخ:
1 - نسخ التلاوة والحكم معا: مثل ما روته السيدة عائشة عن نسخ آية الرضاع من عشر رضعات مشبعات إلى خمس فقد نسخ حكمها وتلاوتها معا.
2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم: مثل نسخ تلاوة حكم الزا نى المحصن بالرجم نكالا على ما فعلا من القرآن مع بقاء حكمها فى التطبيق.
3- نسخ الحكم وبقاء التلاوة:وهى كثير مثل حكم قيام الليل فى (يا أيها المزمل, قم الليل إلا قليلا....) "المزمل 1-3" والتى نسخت بالآية (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من اللذين معك,والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم, فاقرءوا ما تيسر من القرآن) "المزمل 20" .
وقد أقر سبحانه النسخ فى القرآن اجمالا فى قوله تعالى ( ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) "البقرة 106" وقد وضع الفقهاء نصا فى وجوب معرفة الناسخ والمنسوخ لكل من يتصّدى للفتوى من العلماء.
وبعد هذه الإطلالة السريعة على معنى الناسخ والمنسوخ في القرآن نعود إلى ما قيل فى موضوع الغرانيق, ولكن لتعريف معنى كلمة الغرانيق فى اللغة كما جاء فى المعجم } الغرانيق هى جمع غرنوق وهو طير أبيض طويل العنق ,قال ابن الأنبارى"الغرانيق:الذكور من الطير,وأحدها غرنوق وغرنيق,وسمى به لبياضه ,وقيل هو الكركى, وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم اليه فشبهت بالطيور التى تعلوا وترتفع)انتهى النقل عن لسان العرب"10/86"{.
حديث الغرانيق أورده ابن سعد فى طبقاته الكبرى وابن جرير الطبرى فى تاريخ الرسل والملوك وجلال الدين السيوطى فى الجلالين والشهرستانى فى الملل والنحل والبيهقى فى الدلائل كذلك ابن ابى حاتم والبزاز وابن مردويه وابن تيمية فى الفتاوىوالنحاس فى معانى القرآن والضياء المقدسى فى المختارة وغيرهم كثيرون وقد رويت عن ابن عباس من طرق عدة وعن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو العالية وأبوبكر بن عبد الرحمن وعكرمة وقتادة ومحمد بن كعب القرظى و محمد بن قيس وغيرهم.
قصة الغرانيق
يقولون أن رسول الله وقد آلمه انفضاض قومه عنه وصدودهم عن دعوته , وكان من شدّة حبه لهم, أحرص الناس على هدايتهم لدين الله, فتمنى أن يأتيه من الله ما يقرب بينه وبينهم, وفى يوم جاءه"الأسود بن المطلب" و"الوليد بن المغيرة" و"أمية بن خلف" و"العاص بن وائل" وهم من زعماء قريش وأسيادها وقالوا له: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما عبدنا فنشترك نحن وأنت فى الأمر, يا محمد انما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك, فان الناس يأتونك من الآفاق.
وقال أبو الوليد وكان كبيرهم: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت, وهو الذى يخلق ويرزق,ولكن آلهتنا تلك تشفع لنا عنده,فان جعلت لها نصيبا فنحن معك.
وهكذا كانوا يعرضون على الرسول صفقة, أن يؤمنوا بالله و بالرسالة, مقابل أن يظلوا على توسلهم بالأصنام. فجاء رد الرسول عليهم وحيا فى سورة الكافرين حيث يقول فى جوابهم: (قل يا أيها الكافرون, لا أعبد ما تعبدون, ولا أنتم عابدون ما أعبد) الكافرون1-3
على أن الرسول بقى يراوده الأمل في أن يراهم له مصدقون وكان يقول فى نفسه :ليته ينزل في ذلك أمر يقّربنا من قريش.
وذات يوم وبينما كان رسول الله يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة"النجم" فلما بلغ قوله تعالى:( أفرأيتم اللات والعزّى,ومناة الثالثة الأخرى) "النجم 19-20" أجرى الشيطان على لسانه الجملتين التاليتين:( تلك الغرانيق العلى, منها الشفاعة ترتجى).
وفى رواية أخرى( منها الشفاعة ترتضى).
فلما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ,وقرأ محمدا ما بعدها من آيات, ولما بلغ آية السجدة فيها وختم السورة, سجد هو ومن حضر فى المسجد من المسلمين والمشركين إلا الوليد بن المغيرة لكبر فى سنه,فأخذ بيده من البطحاء فسجد عليها.
وفرح المشركون , وارتفعت نداءاتهم يقولون: لقد ذكر محمد آلهتنا بخير.
ولما كان كل حى من العرب له وثنه, وكان له تلبيته الخاصة حول الكعبة,وكانت تلبية اللات والعزى ومناة هى كما أجراها الشيطان( أرأيتم اللات والعزى, ومناة الثالثة الكبرى, تلك الغرانيق العلى, منها الشفاعة ترتجى) "ابن الكلبى الأصنام ص7" وكانو يزعمون أنهن ملائكة وأنهن بنات الله يشفعن للخلق عنده.
وانتشر نبأ هذه المصالحة وعم بين الناس,وهللت قريش به فى الركبان أن التقارب قد حدث بين رسول الله والمشركين فى مكة, حتى بلغ خبر السجدة المهاجرين فى الحبشة من أصحاب رسول الله, وقيل لهم أسلمت قريش, فقرر منهم رجال العودة الى مكة .
قالوا: فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة, فلما بلغ الجملتين اللتين ألقى بهما الشيطان عليه قال جبريل: ما جئتك بهاتين لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل ,وقلت ما لم يقل لك , فقال رسول الله :افتريت على الله وقلت ما لم يقل, فأوحى الله اليه (وان كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا اليك لتفترى علينا غيره, إذا لا اتخذوك خليلا, ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) "الإسراء73-74."
فما زال رسول الله مغموما مكروبا يلوم نفسه أنه افترى على الله الكذب,( وحاشاه أن يفعل ذلك) حتى نزلت عليه الآية الكريمة: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الله في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم )" الحج 52 " يعزيه ويهون عليه الأمر,ويبلغه أن ذلك أمر شاع في الأنبياء قبله, فلم يكن قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى, ولا أحب كما أحب, إلا والشيطان قد ألقى فى أمنيته , وأجرى على لسانه آيات مثلها , فنسخ الله ما ألقى الشيطان ثم أحكم آياته. فذهب عن رسول الله الحزن .
قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله فغيّر ذلك وجاء بغيره, وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك, فازدادوا شرا على ما كانوا عليه.(تفسير الطبرى131-132 /17_وتاريخ الطبري ط- دار المعارف سنة 1961 338-339/2)
التشكيك فيما جاء فى حديث الغرانيق
شكك بعض المتقدمون و المتأخرون فى صحة هذا الحديث, بل وشكك بعضهم فى القصة برمتها, وقالوا إن هذا إلا محض افتراء على الله ورسوله, أمثال من شكك فى الواقعة من المتقدمين الحافظ بن كثير, والغزالى, والبيهقى ,وابن حزم والقاضى عياض ومن المتأخرين الشيخ محمد عبدة فى التفسير والشيخ ناصر الدين الألبانى فى (نصب المنجانيق, لنسف قصة الغرانيق ) ومجمل اعتراضاتهم تتلخص فيما يلى:
الإعتراض الأول: أن النبى لم يتكلم بهذا القول(تلك الغرانيق العلى) ولا الشيطان تكلم بها ولا أحد, بل كل ما فى الأمر أن الرسول أثناء تلاوته لسورة النجم أشتبه الأمر على الكفار, لرغبتهم فى الأمر فحسبوا بعض ألفاظه ما روى من قولهم.
الإعتراض الثانى: أن ما ذكر هو كلام الشيطان , وأنه تلفظ بها من تلقاء نفسه وأنزلها فى داخل التلاوة, ليظن الكفار أن الكلام لرسول الله, وأن الذين سمعوه لم يروا أحدا فظنوا أن الذى ينطق هو رسول الله.
الإعتراض الثالث: قالوا أن رسول الله قال هذه الجملة( تلك الغرانيق العلا) سهوا كما روى عن قتادة ومقاتل- من الصحابة- أنهما قالا "أنه (ص) كان يصلى عند المقام, فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان (تلك الغرانيق العلا, منها الشفاعة ترتجى) فلما فرغ من السورة, سجد وسجد كل من فى المسجد, فأتاه جبريل فاستقرأه السورة, فلما إنتهى من(أفرأيتم اللات والعزى, ومناة الثالثة الأخرى,تلك الغرانيق العلى, إن شفاعتهن لترتجى) قال جبريل : لم آتيك بهذا, فحزن الرسول إلى أن نزلت سورة الحج.
الإعتراض الرابع: إن النبى تكلم بهذه الكلمات بفعل الشيطان حسب رواية إبن عباس( قال إبن عباس فى رواية عطا: إن شيطان يقال له الأبيض, أتى النبى على صورة جبريل, وألقى على لسانه هذه الكلمات" تلك الغرانيق العلى" فلما بلغ تلك الجملة قال جبريل: أنا ما جئتك بذلك, فحزن الرسول وقال أتانى على صورتك فألقاها على لسانى.
الأعتراض الخامس: أن الرسول تكلم بهذه الكلمات مجبرا,أى أن الشيطان أجبر الرسول على ذلك.
الإعتراض السادس: إن الرسول لشدة حرصه على إيمان القوم من أهله أدخل هذه الكلمات من تلقاء نفسه ثم رجع عنها.
وللتعليق على ما ورد من اعتراضات, يمكن القول:
1-من الصعب التصديق بوقوع الوهم فى السماع لجميع من كان بالمسجد, وليس لآحاد منهم.
2- انه لو تم تصديق أن يكون الشيطان قد قلّد صوت الرسول حتى ليختلط على السامعين, فلا يستطيعون التمييز بين صوت الرسول وصوت الشيطان, لهو أمر خطير إذا جاز فانه يرفع الثقة عن القرآن جميعا.
3- لو جاز عن النبي السهو لجاز في مواضع أخرى بحيث يختلط القرآن يبعضه, وهذا طعن خطير على القرآن الكريم.
4- إن ما قيل عن إجبار الشيطان للرسول على قول كلام لا يود قوله, يضعف الثقة في قدرة آحاد الناس على صد الشيطان, ويرفع الثقة عن الوحي.
5- كما أنه من الخطأ الشديد القول بعدم تمييز الرسول بين جبريل والشيطان, فذلك خلط فادح, وطعن في الوحي عظيم.
6- كما لا يمكن تصور أن يدخل الرسول من عنده أي كلمة في القرآن, فما بالك بمثل هذا الذي قيل.
بقى أن نقول في ذلك كلمات:
(الأولى) أنه من الأفضل أن نقر بصحة حادثة الغرانيق بدلا من الدفاع الساذج الذي يضّر بمصداقية الوحى والرسول والكتاب أكثر مما ينفع.
(الثانية) حتى لو حاولوا التشكيك فى بعض رواة القصة لكن معظم الرواة لا يمكن الطعن فيهم مثل البّرى والسيوطي والرازي, خاصة من نقلوها وحاولوا تبريرها بالخطأ أو السهو كقتادة ومقاتل والياس.
(الثالثة) إن تقييد ما جاء في آية الحج من قوله تعالى(وما أرسلنا من قبلك من رسول أو نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته...... الى آخر الآية) بحادث محدد في ذكره, يعنى أن يكف الآخرين عن التقول بعموم الحالة.
(الرابعة) القول بأن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه المحفوظ من العبث به في قوله "انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وأنه ينطبق على هذه القصة فهذا صحيح, بمعنى أنه لو حاول انس أو جن التلاعب بكلام الله "فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم آياته".
( الخامسة) أما الذين يحتجون بالآية الكريمة(وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحى يوحى) بأن كل كلام الرسول (ص) وحيا, ليسوا على صواب, فقد كان الصحابة يفرقون بين الأمرين, حين يسألون أهو خبر السماء, أم الحرب والرأي والمشورة, وماذا يقول هؤلاء في حديث تأبير النخيل, فهل كان وحيا كذلك.
وختاما أقول أن تصديق ما روى أقرب إلى العقل والمنطق المستقيم, بدلا من التضارب الفارغ الذي يسيء للدعوة, والحديث العقيم عن سهو أو نعاس أو شيطان يقال له الأبيض لا تنفعهم ولا تنطلي على ذي فهم:
" فليس هبل كمناه ,,,,,,,,,,,,,,,,وليست أساف كنائلة"
Sunday, May 2, 2010
الآيات الشيطانية..وقصة الغرانيق
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment