Tuesday, July 6, 2010

صفحة ناصعة من تاريخ مصر



مساء أحد أيام شهر يوليو الحارة فى عام 1933 ، وإبان إشتعال الحركة الوطنية المصرية ضد الإحتلال الإنجليزى وحكومة صدقى والمطالبة بعودة دستور 1923, بينما كان ثلاثة شبان ثوريين ساهرين فى مقر جريدتهم "الصرخة" يجهزون العدد الجديد، إذ بصوت أحذية ثقيلة تعلو الدرج، يندفع ضباط الداخلية من باب الجريدة دون إستئذان، ليلقون القبض على هؤلاء الشبان الصغار، ويتركون باب الجريدة مفتوحا، وينطلقون بهم سريعا الى "سجن مصر".

أولهم هو حافظ محمود، وكان أكبرهم سنا وعمره آنذاك 25 سنة، وقد بدأ عمله السياسى وهو ما زال طفلا فكوّن وعمرهآ 14 عاما جمعية القلم الأدبية، وعندما كبر قليلا أسس مع مجموعة من أقرانه "جمعية الإستقلال الإقتصادى" داعين الى مقاطعة البضائع الإنجليزية، ثم سعى بعد ذلك لتكوين نقابة الصحفيين وحاز رقم العضوية الأول بها وإشتهر فيما بعد بشيخ الصحفيين حيث انتخب لمدة 26 دورة متتالية ( 1941- 1967) ونقيبا للصحفيين4 دورات متتالية (1964- 1968).

ثانيهم كان "فتحى رضوان" وهو إسم له تاريخ نضالى كبير، كان عمره وقتها 21 عاما، يحمل قلبا يخفق بالوطنية والعشق لبلده، خاض غمار النضال مبكرا مع رفيق دربه وزميل كفاحه"أحمد حسين" بداية من إنشاء جريدة "الصرخة" ومشروع القرش ثم تكوين حزب "مصر الفتاة"، بعدها إختلفا فانضم فتحى رضوان الى الحزب الوطنى القديم ولكنه سرعان ما رأى أن الحزب ليس ثوريا بما يرضى طموحه، وأن عمله مع الأرستقراطية ورجال الأعمال لا يرضيه، فأنشأ الحزب الوطنى الجديد على خطى "مصطفى كامل"، وأصدر جريدة "اللواء الجديد"، وآخر مرة أعتقل فيها قبل الثورة كانت بعد حريق القاهرة فى 26 يناير عام 1952، حيث مكث فى السجن حتى حركة الجيش فى23 يوليو، ليصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بالإفراج عنه وتعيينه وزيرا للإرشاد القومى (الإعلام )، أما آخر إعتقال له وهو فى السبعين فى سبتمبر 1979.

أما الثالث فهو شيخ المجاهدين" أحمد حسين"، كان وقتها فى نفس عمر "فتحى رضوان" 21 سنة ، عرف عنه الوطنية المتأججة والتطرف السياسى منذ نعومة أظفاره، حيث كوّن مع صديقه وزميل كفاحه "فتحى رضوان" وهم فى المدرسة الإبتدائية "جمعية نصر الدين الإسلامى"، وأثناء دراسته الجامعية أنشأ "مشروع القرش"، وذلك لحث المواطنيين للتبرع بقرش واحد للمساهمة فى مشاريع إقتصادية لإنقاذ الإقتصاد المصرى وهو مشروع حالم لتشجيع الصناعة المصرية من خلال إنشاء مصنع للطرابيش!!!، ثم قام بإنشاء جمعية مصر الفتاة عام 1933 واتخذ جريدة الصرخة منبرا لها، وكانت جمعية متطرفة فى وطنيتها، وكان من شعاراتها "لا تتحدث إلا بالعربية"، و"لا تشتر إلا من مصري"، و"لا تلبس إلا ما صنع في مصر"، و"احتقر كل ما هو أجنبي، وتعصب لقوميتك إلى حد الجنون".، وأنشأت جماعات شبه عسكرية عرفت بـ"تشكيلات القمصان الخضراء"، وكانت شعاراتها واسلوبها متأثرا بصعود النازية والفاشية والنزعات العنصرية فى أوروبا، ثم غير إسم الجمعية فيما بعد الى "الحزب الإشتراكى" ولكنه كما قال عنه المؤرخ "طارق البشرى" : (إن الحزب الاشتراكي انتشر أكثر مما توغل داخل الجماهير، وكان جيشانا ثوريا أكثر منه قدرة ثورية).
كانت حركة الشعب المصرى النضالية قد هدأت كثيرا بعد ثورته العظيمة فى 1919 التى توجت بإلغاء الحماية البريطانية على مصر وصدور تصريح 28 فبراير 1922 والذى ينص على أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة مع التحفظات الاربعة الشهيرة، وبعد صدور دستور 1923 الذى حول مصر لأول مرة الى ملكية دستورية، وتم فيه تقييد سلطات الملك فؤاد كثيرا بذكر أن يمارس صلاحيته من خلال الحكومة، ورغم ذلك فلم يكن "سعد زغلول" راضيا كل الرضا عن هذا الدستور واصفا اللجنة التى وضعته ب"لجنة الأشقياء"، ومعتبرا أن اللجنة أعطت صلاحيات للملك أكثر مما يجب.

وبموت "سعد زغلول" فى 1927، وتزايد الصراع والتناحر بين الأحزاب وقادة الوفد على وراثة سعد، إنتهز الملك فؤاد الفرصة بإيعاز من الإنجليز لينقض على الدستور من خلال "إسماعيل صدقى" الذى أطلق عليه المصريين "جلاد الشعب" لقسوته وعنفه فى مواجهة الجماهير، ليصدر أمرا ملكيا بإلغاء دستور 1923 وإستبداله بدستور 1930 الذى يعطى الملك صلاحيات شبه مطلقة.

تحرك الطلاب ومعهم الشعب المصرى بكافة طبقاته لتشمل عمد القرى الذين قدموا إستقالاتهم وصدرت الدعاوى لزعماء الأحزاب بالتخلى عن مطامعهم الشخصية والإتحاد من أجل المطالبة بعودة دستور 1923، وبدأت الحركة الوطنية فى الإشتعال مرة أخرى.

فى تلك الأثناء أظهرت السلطة ممثلة فى "حزب الشعب" صنيعة الملك والإحتلال وجهها القبيح وتصدت بعنف للحركة الوطنية وكان أن تم إعتقال الشبان الثلاثة الذين ذكرناهم وإغلاق جريدتهم، وكان هؤلاء الثلاثة من الشباب الوطنى الذين لا تحميهم قوة وليس وراؤهم حزب كبير يدافع عنهم، من هنا كان تعاطف الجماهير معهم أكبر، إذ توافد الأهالي والمواطنون على السجن الذي أُودع فيه الشباب، لتقديم طعام طازج وشهي يومياً إلى المعتقلين، بينما تسابق المساجين لتقديم الفراش النظيف والأغطية للشباب!

وفى يوم محاكمتهم حضر حشد كبير من المواطنين الى قاعة المحكمة، بينما توافد المحامين المتطوعين للدفاع عنهم، وما أن إعتلى القاضى المنصة وبدأ الإتهام والمرافعة فى الكلام حتى فوجئ الحضور بشخص مهيب الطلعة يدخل من الباب الخلفى شيخ جليل مرتديا روب المحاماه، وظهرت علامات الإرتباك على القاضى فقد كان هذا الشخص هو "محمد على علوبة باشا" وزير الحقانية ( العدل) الأسبق، وما أن دخل القاعة حتى رفع يده مستأذنا : أنا حاضر عن المتهمين، فحياه القاضى مرتبكا وأفسح له مكانا ليبدأ مرافعته.

نظر "علوبة باشا" الى المنصة قائلا : سيدى القاضى، أرجو تدوين كل كلمة أقولها، و كان يعلم أن كل الكلام الذى يدور فى القاعة يدون بالفعل ولكنه أراد بهذا الإستهلال أن يشد الأنظار التى كانت فى الحقيقة شاخصة اليه، ثم أخرج من جيبه عدد جريدة "الصرخة" محل التحقيق وبدأ يقرأ ببطأ وبصوت جهورى المقال الإفتتاحى الذى يحاكمون من أجله، وكان المقال يدعو الشباب للثورة على الظلم وأن يستلهم روح شباب ثورة 1919 ويدعوهم أن يثوروا على كل من يحاول قهرهم، وما أن إنتهى من القراءة حتى دوّت القاعة بالتصفيق، وبادر بالقول: "والآن يا سيدي القاضي، إنني قلت وأؤيد في محضر الجلسة نفس الكلام الذي سجن هؤلاء الشباب بسبه، وأنت الآن ليس أمامك إلا أمر من اثنين؛ إما أن تطلق سراحهم ، أو أن تحكم بسجني معهم".

حدث هرج ومرج عظيم بالقاعة، ولم يستطع القاضى السيطرة على الحضور، فأمر برفع الجلسة وإعلن تنحيه عن القضية، ليصدر رئيس المحكمة أمرا فوريا بتعيين قاض آخر ليعود الى نفس الجلسة ويصدر حكما بالإفراج عن المتهمين.

No comments:

Post a Comment