Wednesday, July 21, 2010

الوهابية المصرية...والنكوص للخلف


لا أزعم أن هذا المصطلح "الوهابية المصرية" من عندياتى، لكنني قرأته للكاتب الكبير"حلمي نمنم" بجريدة "المصري اليوم" في مقال عن وجود بصمة مصرية للفكر الوهابى لها ملامح خاصة ومحددة، ورغم أنه لم يسترسل بما فيه الكفاية فى الموضوع لكنه فتح أمامي مجالا للكتابة فيه.

بدايةََ "الوهابية" مصطلح أطلق على حركة دينية سياسية ظهرت منسوبة الى مؤسسها الشيخ "محمد بن عبد الوهاب 1703- 1792" فى منطقة "نجد" بالجزيرة العربية، حيث تحالف مع "محمد بن سعود" أمير الدرعية لنشر مذهبه السلفى معاهدا إياه ( الدم الدم..الهدم الهدم )، ومبشرا إياه بالغلبة على جميع بلاد نجد.

وكان أن أعمل محمد بن سعود سيوفه فى رقاب القبائل المجاورة فيما أطلق عليه "غزوات" لتعبيد الناس لربهم حيث أفتى إبن عبد الوهاب بكفرهم وخروجهم عن ملة الإسلام وأنه أعلن الجهاد عليهم لإعادتهم الى دين التوحيد والعقيدة الصحيحة، ونتج عن هذه الغزوات إقامة الدولة السعودية الأولى التى إمتدت الى دمشق شمالا وعمان جنوبا.

ويتلخص الفكر الوهابى فى العودة الى الأصول وتحقيق مجتمع " أهل السنة والجماعة "، وإعتبارهم وحدهم الفرقة الناجية ومن يطبقون صحيح الإسلام كما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأن المخالفين لهم مفارقين للجماعة يجب إعلان الجهاد عليهم ومصادرة أموالهم وسبى نساؤهم، وهو بناء أيدلوجي واضح ومحدد، مجموعة من الأفكار البسيطة لخصها محمد بن عبدالوهاب فى كتابه " التوحيد" حيث يدعو للعودة الى الإسلام الصافى ونبذ كل ما طرأ عليه من بدع وعادات مخالفة لجوهر التوحيد كالتوسل بالقبور وشد الرحال اليها والتبرك بها، وتقديس الأولياء وزيارة أضرحتهم، كما يدعو الى التشدد والإنغلاق فى أمور الدنيا والدين والتعصب والإستعلاء الدينى والزهد فى الدنيا ورفع راية الجهاد وتكفير مخالفيهم، كما أن لهم موقفا شديد التطرف تجاه المرأة.

سقطت الدولة السعودية الأولى على يد والى مصر "محمد على باشا" فى عام 1818 بعد أن إستعان به السلطان العثمانى لحربهم ( وربما كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لكراهيتهم لمصر)، وبعد تحالف الدول الغربية مع الباب العالى ضد "محمد على" وعقد "معاهدة لندن" عام 1940عادت الحركة الوهابية إلى الانتعاش مجددا وإستطاع "عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود" الانتصار على "آل الرشيد" أمراء حائل وانتزاع مدينة الرياض منهم ليجعلها عاصمة لملكه في عام 1902، ثم الاستيلاء على شبه الجزيرة العربية بأكملها وتأسيس المملكة العربية السعودية سنة 1932.

تتميز الوهابية في صورتها الأولى بكونها مفهوما أيدلوجيا بسيطا، مضبوط المصطلحات والمفاهيم، مع سهولة التعبير عن مكنونه، يتناسب مع جمهور متلقي محدود التفكير، و بناء عقلي لا يستوعب النظريات المركبة، والفلسفة المعقدة، عاكسا الوضع الثقافي والإجتماعى لبيئة صحراوية بدوية محدودة الإدراك والوعي، متجاوبا مع سلوكيات خشنة جبلت على تحقير المرأة واستعبادها، وعلى ظروف معيشية قاسية تبارك الغزو والفتح والاستيلاء على الغنائم والسبايا، هي دعوة أقرب ما تكون إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكن بخلفية بدوية خشنة ونوايا وأهداف مختلفة، وأصبحت مهمتهم الرئيسة في الوقت الحالي توفيق التعاليم الوهابية مع ثقافة الثراء السعودية الجديدة. وقد حلت الوهابية هذه المشكلة ضمن إطار المفهوم التقليدي بأن اعتبرت الثروة والقوة نعمة من الله يجب قبولها.

ويفسر جانبها الإستعلائى والخشونة تجاه الآخرين، واتهام المخالفين بأنهم خارجين عن الدين فقرا فى الفكر ورد فعل للدفاع عن تخلفهم الحضارى وعجزهم الإنسانى، كما يدلل رفضهم لمنتجات الحضارة الغربية وخاصة جانبها الثقافي بأنهم كانوا يعيشون حياة مجتمعية متخلفة ويحيون في عزلة حضارية مع شعور بالعجز عن اللحاق بالركب العلمي الإنساني، مما يجعلهم ينصرفون إلى الماضي يعيشون فيه والى الآخرة يحلمون فيها بحور العين، ويهتمون فقط بتربية لحاهم وتقصير ثيابهم وتغطية أجساد نسائهم ومنعهن من الخروج من بيوتهم أصلا، وحتى أن شعارهم على علمهم القومي ما زال السيف وجملة طويلة " لا إله إلا الله..محمد رسول الله"، وكأنه لواء حرب في إحدى الغزوات.

على أن التجليات العملية للمنهج الوهابي تبرز من خلال إدانتها للتبرك بالأولياء ورفضها للزيارات والمواسم والطرق الصوفية والعادات اليومية، ويرفضون السلفية، وعلاوة على الطعن في الأنظمة الرمزية التي تكون المجتمع، فإنها تلغي أيضا أطر المعيشة الاجتماعية للناس، لتعيد تشكيلها بما يتوافق مع معتقدها العام، وما ينتج عنه من نظرة حول العالم.

على أن أهم ما ميّز هذا الفكر بوجه عام يمكن تلخيصه فيما يلى:

1- التمسك بالماضي، وإحياءه، ومحاولة بعثه من جديد

2- التشدد والتطرف والانغلاق في أمور الدين والدنيا

3- التعصب والاستعلاء الديني

4- رفض منتجات الحضارة الحديثة الثقافية والإنسانية

5- تكفير المخالف وإعلان الجهاد ضده

6- العداء الشديد والاحتقار للمرأة

بعد هذه المقدمة السريعة للموضوع فإن الحديث عن النسخة المصرية للفكر الوهابي تأخذنا إلى رصد سريع لتأثير هذا الفكر في الواقع المصري، فقد تزامن تأسيس المملكة الثاني مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين في مصر(1928) في فترة ما بين الحربين والصعود السريع للفكر الليبرالي والديموقراطى الذي أحدثته ثورة 1919، ليمثل الإخوان بفكرهم السلفي ردة إلى الخلف وتيارا معاكسا لمجرى التقدم.

يمكن القول أن النهضة الحديثة في مصر والتي يؤرخ لها بالحملة الفرنسية عام 1797 وتولى "محمد على" الحكم بإرادة شعبية، وما أحدثه من نهضة صناعية وزراعية وتعليمية، حيث نقل مصر في فترة زمنية وجيزة جدا (عشرون عاما ) من بلد يعيش في غياهب التاريخ إلى مشارف الدول العظمى والمتحضرة بمقياس ذلك الزمان، وبالرغم من تحالف الدول الأوروبية ضده وإرغامه على التخلي عن البلاد التي فتحها واقتصاره ونسله على حكم مصر والسودان، فقد كانت مصر قد وضعت أحد أقدامها على طريق النهضة والتقدم برغم كل العقبات والعوائق التي واجهتها لاحقا وأهمها الاحتلال الإنجليزي في 1882.

وتشهد بدايات القرن العشرين نهضه حضارية كبرى بإصدار عشرات الصحف والمجلات والدوريات وتأسيس عدد كبير من الأحزاب وافتتاح جامعة فؤاد (القاهرة ) في 1907، وكان من رموز هذه المرحلة الشيخ محمد عبدة ومصطفى كامل ومحمد فريد وقاسم أمين واحمد لطفي السيد وطلعت حرب ، وعشرات ومئات غيرهم.

على أنه برحيل العالم الإستنارى العظيم الشيخ "محمد عبدة" بدأ التراجع فى مجال الإصلاح الديني وكان خليفته " محمد رشيد رضا" أكثر محافظة وسلفية،واستمر التراجع بحلول مدرس الإلزامي "حسن البنا " واضعا منهجا أكثر سلفية حتى يصل بنا الأمر إلى "سيد قطب" والجماعات السلفية الجهادية وانتشار الفكر السلفي الوهابي، في مسيرة غير منقطعة حتى الآن.

لقد كان "محمد بن عبد الوهاب" مسلم سني على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولكن الرجل كان يعتمد بشكل أساسي في أفكاره وفتاواه إلى آراء وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وشروح تلميذه إبن القيم الجوزية، هذا المنهل المتشدد الذي نهل منه "أبو الأعلى المودودى" في الهند، و"سيد قطب" في مصر، وجهيمان العتيبى وبن لادن والشيخ عمرعبدالرحمن وجميع فصائل التكفير والجهاد في العالم الإسلامي.

وكان لصراع عسكر يوليو مع حركة الإخوان واضطهادهم لعناصرها أن فرّ معظم قادتها لينزلوا رحبا على النظام الوهابي السعودي إبان احتدام الصراع مع عبد الناصر، ليلقحوا أفكارهم بتعاليم ابن عبد الوهاب ويغترفوا من الأموال التي فاضت لديهم.

وجاءت هزيمة 1967 لتعلن هزيمة التيار القومي في العالم العربي، وتتيح فرصة ذهبية لصعود التيار الديني متوسلا بأننا هزمنا لابتعادنا عن الله، وليعلن أحد أشهر رموزه أنه سجد لله شكرا للهزيمة التي تعنى هزيمة الكفر، ويسقط مع التيار القومي أيضا اليسار بكافة أشكاله والذي ربط مصيره شعاراتيا مع هذا التيار المهزوم، وينفتح الطريق أمام التيار الديني واسعا، ليزداد الخرق أتساعا مع حرب رمضان ( أكتوبر ) والتي عبر فيها الجنود صائمين في رمضان تحت شعار "الله أكبر" كما اعلن حينئذ.

وجاءت القفزة في أسعار البترول لتدفع بأموال ضخمة في خزينة النظم السلفية في الخليج وعلى رأسها النظام الوهابي ولتفتح أسواقه لأعداد كبيرة من المصريين من مختلف الفئات فى هجرة مؤقتة ليعودوا بعد ذلك محملين بالأفكار السلفية والسلوكيات الصحراوية، كما كان انفتاح السوق المصرى امام استثماراتهم لتمتلإ الساحة بالشركات والبنوك والمصارف الإسلامية والتجارة باسم الدين وتنتشر مظاهر الإسلام الشكلي لتملأ الشوارع وتزكم الأنوف باسم الصحوة الإسلامية، هذا المناخ الذي أفرز سريعا نشوء جماعات التكفير، والعداء للأقباط واستحلال أموالهم، والهوس المرضى من جسد المرأة لينتشر الحجاب ومن بعده النقاب وترتفع دعوة الفصل بين الجنسين في مقاعد الدراسة والرحلات والمواصلات والمصالح الحكومية وفى جميع شئون الحياة، وتكتمل بالدعوة إلى عودة النساء إلى البيت.

واختلط الفكر السلفي الوافد من الجزيرة بتلك الدعاوى والفتاوى المحلية الصنع التي تملأ سماء الفضائيات فى مصر وليس آخرها فتاوى رضاع الكبير والتبرك ببول النبي ونخامته، يطلقون الفتاوى الصاعقة، مثل أن الزوج إذا ضاجع زوجته وهى عارية يكون قد ارتكب كبيرة الزنى، وأنها إذا أنجبت في هذه الحالة يكون الوليد «سفاحا»، إذ لا يجوز له- طبقاً لهذا الفهم- أن يرى زوجته عارية.

وكما حدث في باكستان من نشوء طالبان محلية امتدادا لتلك التي نشأت في أفغانستان، فلم نعد نفرق بين الأصل والتقليد، وتحول ذلك ليتداخل في النسيج الشعبي والسلوك اليومي والفكر الجمعي للجمهور.

إن المتأمل في ما حدث للشارع المصري سيلاحظ بدون كثير عناء أنه كلما علت موجة التشدد الديني، وارتفعت نغمة التطرف الإسلامي كلما زاد الفساد والسرقة والتحرش والجرائم بجميع أنواعها، وقد نشأت جرائم عنف وقتل لم نكن نسمع بها سابقا، بينما الأغلبية من أمثالي تربوا في بيوت محافظة يمارس فيها التدين التقليدي وفى بيئة لا تعرف التفرقة بين المسلم والمسيحي، ولا يوجد فيها حجاب ولا نقاب بل تحرر وتسامح، وحتى عندما انتشرت بين الفتيات موضة المينى جيب والميكروجيب في ستينيات القرن الماضي لم يكن ثمة تحرش، ولا سمعنا عن حالات الخطف والاغتصاب فى وضح النهار، هذا الهوس المجنون بجسد المرأة والتي يقولون عنها (للمرأة نصف عقل، وإنها كالكلب الأسود والحمار تقطع الصلاة، وإنها تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان).

زعموا أنهم يحاربون البدع برفضهم لعادات مصرية قديمة حرص المصريون عليها مثل أعياد الميلاد وسبوع المولود وأغاني الأفراح والمولد النبوي وشم النسيم وغيرها من اللهو البريئ والاستمتاع العفيف، وأعتقد لو أن الرسول بيننا لأقرنا عليها كما فعل مع مثيلاتها، لكنهم بحثوا في كتب التراث عن ما يحرم هذه الاحتفالات فقالوا أنها نوع من التقديس للأحياء، واستبدلوا الاحتفال بسبوع المولود بعقيقه اللحم ولم ينسوا أن يفرقوا بين الذكر والأنثى، فالذكر شاتان وللأنثى شاة واحدة.

لقد اختلط الفكر الوهابي الوارد بما هو أسوأ وأنكر من أفكار محلية الصنع أصبحت جزءا عضويا من ثقافة المجتمع، إلا من رحم ربى.

No comments:

Post a Comment