المقصود هنا استغلال الإنسان للإنسان، وتحديدا الاستغلال الإقتصادى، وجوهر هذا الإستغلال الإقتصادى فى الإسلام هو "الربا" بينما جوهره فى الفكر الماركسى هو استغلال رب العمل للعامل من خلال حرمانه من "فائض القيمة"، والربا كما بينه الإسلام هو مفهوم شائع للعامة سمعوا عنه جميعا ويعلم معناه أغلبهم، بينما فائض القيمة هى كلمة غير شائعة وغير مفهومة الا للمتخصص.
والربا فى اللغة معناه الزيادة وهو أن يعطى الرجل مالا أو متاعا لأجل محدد ثم يسترده زيادة عما أعطى، وقد حرمه اليهود فيما بينهم وسمحوا بالتعامل به مع الأغيار، أى غير اليهود، ولم تحدد المسيحية موقفا صريحا منه ما عدا ما جاء على لسان السيد المسيح فى "موعظة الجبل" ( من طلب منك ثوبا إعطه ثوبان)، أما الدين الإسلامى فهو قاطع الدلالة فى تحريم الربا شرعا كما ورد فى القرآن الكريم.
وقد عرف الناس الربا منذ عهود سحيقة، بعد انتهاء المرحلة المشاعية ونشوء الملكية الفردية والأسرة، حيث فاضت الثروات عند البعض وشحت لدى آخرين، فاضطروا للاقتراض من الغير للحاجة، بشكل ربوى أى أن يسددوا ديونهم أكثر مما أخذوها، وجاء دور الدولة لحماية أموال المرابين وضمان عودتها وفوائدها إليهم، وسنت القوانين لحفظ هذه الحقوق، وتذكرنا رواية "شكسبير" الشهيرة "تاجر البندقية" بصفات المرابي اليهودي "شيلوك" الذى كاد أن يقتطع رطل اللحم سدادا لدينه.
وظل العمل بالربا بشكل بسيط وبدائي حتى ظهور النقود كحاضنة للتبادل، وقدوم عصر الكشوفات الجغرافية العظمى، وانتقال المجتمع تدريجيا الى عهد الثورة الصناعية، مما أدى الى توسع الأعمال التجارية عبر العالم، والى الاحتياج لتمويلات ضخمة للصفقات التجارية، والى أماكن لحفظ الفوائض المالية الكبيرة، وقد أدى ذلك الى نشأة البنوك لتحل محل المرابى الفرد ومحلات الرهونات بشكلها البسيط، وتحول نشا ط هذه البنوك الى نشاط مؤسسى يقوم على حفظ المدخرات والودائع مقابل فوائد بنكية صغيرة وإقراض المحتاجين لهذه الأموال مقابل فائدة أكبر ويتم تحقيق الأرباح من الفرق بين هاتين الفائدتين.
والذين يرفضون الربا لأسباب دينية لا يقفون عند فعل الربا كعمل لا إنسانى ولا أخلاقى، وهوأن يحصل شخص على ربح أو فائدة لم يبذل فيها جهدا، مستغلا حاجة الآخرين ( وأغلبهم فقراء) لكى ينمى ماله بالظلم واللصوصية، ولكنهم فى الأغلب الأعم يقفون من رفض الربا كنص دينى وواجب شرعى وطاعة لله تعالى، ويتشددون فى رفضهم، دون إعمال العقل عن أسباب هذا التحريم، تماما كالموقف من تحريم الخمر كنص شرعى وعدم النص على تحريم المخدرات، بالرغم من طبيعة عمل المخدر فى الحالين, يمسكون بالنص بشكل حرفى ويسقطون المعنى، ويتحرون الدقة فى الموضوع وعدم الخروج عليه، يؤكده لهم المشايخ والفقهاء ودائما فى معظم البرامج الدينية يكون موضوع الربا أحد المواد الأساسية للأسئلة، وخاصة موضوع فوائد البنوك.
ليس هنا مجال مناقشة آراء بعض المستشرقين الذين قالوا أن الربا فرض فى الإسلام فى خضم صراع الرسول مع يهود الجزيرة بقصد إضعافهم إقتصاديا حيث كانوا هم من يملكون الأموال التى يمولون بها تجار قريش فى رحلاتهم التجارية محققين أرباحا طائلة من وراء التعامل بالربا.
ويعلل المرابين عملهم بالربا أن هذه أموالهم وأنهم يخاطرون بإقراضها وقد لا ترجع لهم أو جزء منها، وأن الفائدة التى يتحصلون عليها نتيجة إمساك هذا المال وعدم استثماره والربا مثل ريع العقارأو الإيجار، فهو مقابل لإيجار أموالهم، بالإضافة الى أن قيمة النقود تتناقص نتيجة التضخم والفائدة التى يتحصلون عليها لتغطية هذا النقص، وغير ذلك من الحجج والمبررات، ولكن كل ذلك لا ينفى أن هذه الأموال ربت دون بذل مجهود حقيقى، وأن فى ذلك استغلالا لحاجة المحتاجين.
على أن فائض القيمة تعبير حديث ارتبط بالثورة الصناعية وصعود الرأسمالية والإستغلال الطبقى، الذى فك رموزه وإكتشف آلياته "كارل ماركس" فى كتابه ( الأجور والأسعار والأرباح)، ثم فصلها بعد ذلك فى كتابه الأشهر ( رأس المال)، بعد أن شرح معنى السلعة كمنتج بشرى والقيمة الإستعمالية والتبادلية للسلع، وان قيمة السلعة تكمن فى كمية العمل المبذول فيها، والتى تعطيها قيمتها التبادلية مع باقى السلع، فإذا تمت مبادلة أردب من القمح بكمية من الحديد فمن المفترض ان قيمة الحديد او أردب القمح مقدرة افتراضيا بالجهد البشرى الذى بذل فى انتاجها كل منهما على حدة.
ان لكل سلعة قيمتان قيمة استعمالية وقيمة تبادلية وهما ليستا بالضرورة متماثلتين، فقد تكون القيمة الاستعمالية للسلعة عالية جدا ولكن العمل المبذول فى انتاجها صغيرا أو معدوم، ومن هنا فقيمتها لا تعكس فائدتها كالماء والهواء مثلا، فالهواء الذى لا غنى عنه للحياة نستنشقه مجانا ولكن اذا ما تم تصنيعه وتعبئته فى اسطوانات تصبح له قيمة تبادلية أى سعر، وكذلك الماء، ويوجد إستثناء فى بعض السلع النادرة أو المحتكرة كالبترول مثلا، فهو لآلاف السنين لم تكن له قيمة وهو فى باطن الأرض، وبعد تدخل الغرب لإستخراجه وتفكيكه الى عناصر مختلفة أصبح له قيمة عالية، يتم خصمها من المستهلكين له على شكل فائض القيمة، يدفع جزء منه لأصحاب الأرض المكتشف عليها.
وجوهر فائض القيمة كما عرّفه ماركس يكمن فى ان العمل هو الذى يعطى للسلعة قيمتها وان صاحب المصنع يعطى للعامل الذى ينتج هذه السلع جزءا من القيمة ويقتطع لنفسه ( كالمرابى) جزءا آخر يسمى "فائض القيمة"، أو ( ذلك الجزء من القيمة الإجمالية للبضاعة التى يتجسد فيها العمل الزائد أو غير المدفوع الثمن).
وكما حاول المرابين تبرير الربا فقد جادل انصار الإستغلال الرأسمالى أيضا لتبرير إستغلالهم بالقول ان صاحب العمل يقوم بالمخاطرة بماله، وان ما يحدد قيمة السلعة هو العرض والطلب، كما أن الرأسمالى يتميز عن العامل بالقدرة على التخطيط والإدارة والتنظيم، ولكن هذه الإنتقادات فى جوهرها تحاول تبرير الإستغلال أكثر مما تعمل على النقد الموضوعى، وتحاول الدوران حول فكرة ان أجر العامل يمثل جزءا من قيمة انتاجه، وان الجزء الأكبر يعود لمصلحة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، وتلك قصة أخرى قد نعود لنفصلها فى مقال آخر.
وبالرغم من أن جوهر الإستغلال واحد فى موضوع الربا وفائض القيمة، الا أن الفرق هو أن أصحاب المفهوم الدينى لا يجدون غضاضة فى إستغلال العمال، ويكثر حديثهم حول إعطاء العامل أجره دون التطرق عن قيمة هذا الأجر وعدالته، بل أنهم يقومون بأبشع أنواع الإستغلال لهؤلاء العمال طالما أنهم من الوجهة الشرعية يطهرون أموالهم بدفع الزكاة عنها، لذ فهم يمارسون إستغلالهم باستخدام آليات السوق الرأسمالى رافعين شعارات دينية مثل ( هذا من فضل ربى).
بعد أن شرح "ماركس" قانون "فائض القيمة" فإنه شرع فى وضع برنامجا للعمل، وهو ضرورة أن ينشأ العمال تنظيماتهم المستقلة للدفاع عن حقوقهم المستلبة، وذلك من خلال وحدتهم على المستوى القطرى والأممى ورفع شعار"ياعمال العالم إتحدوا" الذى أضاف له لينين فيما بعد "ويا شعوبه المضطهدة" بعد شرحه كيف انتقلت الرأسمالية الى أعلى مراحلها "الإمبريالية" وتقسيم العالم الى مستعمرات ومناطق نفوذ، وكما أسس "كارل ماركس" الأممية الأولى تعبيرا عن وحدة الأحزاب الثورية فى العالم، أسس "لينين" الأممية الثالثة.
إن الإنتفاضات العمالية، والمظاهرات والوقفات الإحتجاجية للعمال فى كل المواقع ما هى الا تعبير صريح عن صورة من صور نضال الطبقة العاملة من أجل أجر أكثر عدالة وذلك لإسترداد جزء من القيمة المسلوبة منهم، ورعب الطبقة الحاكمة فى مصر هو حين يفهم هؤلاء العمال قوانين إستغلالهم ويقومون بثورة ليس من أجل مطالب جزئية ولكن لدحر الرأسمالية وقلب هذا النظام الفاسد الذى يسيطر عليه رجال الأعمال، وإستبداله بنظام أكثر عدالة وديموقراطية.
No comments:
Post a Comment