تعبير الأزمة بشكل عام يعنى ان الأوضاع الإجتماعية لدى القطاع الأغلب من الجماهيير تفاقمت للدرجة التى لا تستطيع فيها هذه الجماهيير ان تعيش فى ظل هكذا أوضاع، ولم تعد فيها الطبقة الحاكمة قادرة على الإستمرار فى الحكم، ولا تحدث هذه الأزمة فجأة بل تسبقها مجموعة من الإختناقات فى آليات الحكم، وحركات جماهيرية متصاعدة معبرة عن غضب هذه الجماهير.
وكما نعلم فالأزمة الإجتماعية الحالية خانقة، الأسعار والبطالة والفقر والعلاج والتعليم تمسك بخناق الفقراء وذوى الدخول المحدودة والمتوسطة، ومعدلات الفساد فى زيادة مستمرة، والإنقسام الطبقى يتفاقم، ولكن هل تتحول الأزمة الإجتماعية- الإقتصادية اوتوماتيكيا الى أزمة ثورية، هذا هو السؤال؟
لقد علمتنا تجارب الشعوب وذاكرة التاريخ انه ليس بالضرورة حدوث هذا التغيير، فالأزمة الرأسمالية العالمية الكبرى فى نهاية عشرينيات القرن الماضى التى طحنت الشعوب أفرزت صعود النازية والفاشية فى أوروبا والأمثلة كثيرة فى الوقت الحاضر عن أزمات متعددة أدت الى اكثر الأنظمة دكتاتورية فى التاريخ، وليس التغيير فى حد ذاته هو الهدف ولكن التغيير الى ماذا ولمصلحة من؟.
ان ملامح الازمة الثورية تكمن فى انها تتميز بتعمق الصراع الطبقى وتبلور الطبقات الإجتماعية التى تعبر عنها احزاب وحركات سياسية ووعى هذه الطبقات بذاتها وفرز قياداتها الحقيقية مع وجود طليعة ثورية تعبر عن الطبقة العاملة تسعى ان تقود هذا الحراك الإجتماعى وذلك من خلال جبهة واسعة تمثل تطلعات الشعب وتترجم فى برنامج عملى بسيط مطالب الجماهير فى الديموقراطية ومعالجة قضايا الهيمنة الخارجية والتحرر والتنمية ومواجهة الخراب السياسى والثقافى والإجتماعى والتطرف الذى ضرب بجذوره فى المجتمع المصرى.
ان الواقع الاجتماعى فى مصر قد تشوه كثيرا فى النصف قرن الأخير نتيجة تداخل كثير من المظاهر نذكر منها :
(أولا) :- صعود ظاهرة التأسلم السياسى وصبغها لمجمل الواقع الإجتماعى والثقافى وتغلغل الأفكار السلفية بين الطبقات الشعبية و الوسطى ويرجع صعود هذه الظاهرة لأسباب عديده منها
1-غزو الفكر الوهابى المرتبط بالبترودولار بعد حرب 73 وهجرة ملايين المصريين الى دول الخليج وتأثرهم بالأفكار السلفية فى الملبس والمأكل ونمط الحياه والفكر ونقلها الى مصر.
2- ظهور وصعود تيار الإسلام السياسى بعد فشل التيار القومي ذى الميول اليسارية فى حرب 67 ومعاداته الظاهرة للتيار الإسلامى، وبعد تراخى قبضة هذه الأنظمة على حركة التيارالاسلامى ومحاولتها استرضائه بما سمح فى النهاية لنمو الجماعات السلفية الجهادية ودخولها فى صراع عنيف ضد السلطة . 3- التدهور الإقتصادى السريع للطبقات الدنيا والنمو الحاد لطبقة رأسمالية طفيلية غير منتجة و وتنشط فى الاغلب فى مجال المضاربات المالية والاعمال التجارية والسعى للحصول على الوكالات للرأسمال العالمى، هذه الطبقة المتغلغلة فى اجهزة الحكم والغير بعيدة عن الأفكار السلفية الداعية الى التدين الشكلى والمتخفية وراء شعارات دينية تدعواالى الإستسلام والتوكل من نوع " هذا من فضل ربى" و" قل لن يصيبنا الا ماكتب الله لنا" ونمو فكرة ان الغنى يمكن ان يأتى من ضربة حظ، مما دعا الفقراء للرضوخ لنصيبهم من الحياة، ما عدا هبة غاضبة هنا أو هناك " أحداث يناير 77"
4- استمرار حركة الإخوان المسلمين بلا انقطاع والتى هى بمثابة القلب النابض الذى يغذى بالدم جميع التنظيمات السلفية التى انبثقت منها، فبينما توقفت حركة جميع القوى والتيارات السياسية يسارية أو ليبرالية وحدث لها انقطاعات بامتداد تاريخها الا حركة الاخوان التى لم تشهد انقطاع تام او انشقاقات كبرى منذ تأسيسها عام 1928وظل نشاطها مستمرا فى السر او العلن.
5- تغذية التطرف الدينى وتأجيجه بالصراع الطائفى بين الأقباط والمسلمين بما يساعد على تعميق التشدد الدينى من جهه ويصرف الجماهير عن قضاياها الأساسية من جهه اخرى.
(ثانيا):- إضمحلال الحركة اليسارية مع نهاية العقد السابع من القرن الماضى وانسحاب اليسار الماركسى من النشاط الثورى الا فى اقل القليل وهجرة معظم الماركسيين اما الى خارج الوطن او الى الداخل بالإنضمام الى تنظيمات ليبرالية ذات طابع حقوقى " منظمات حقوق انسان- جماعات ابحاث- احزاب ليبرالية – مؤسسات ثقافية حكومية ..الخ "، كما ادى انهيار المنظومة الإشتراكية الى تراجع وارتباك جميع الحركات والأحزاب الشيوعية على المستوى العالمى واهتزاز اليقين الذى استقر عندهم حول صلاحية هذه الأفكار لكل زمان ومكان، وفقدان السند الخارجى المادى والمعنوى.
(ثالثا):- تغير التركيب البنيوى للطبقة العاملة و اضمحلال دورها النضالى نتيجة لسياسات الإنفتاح والخصخصة وبيع وحدات القطاع العام وقطاع الأعمال لمجموعة من المغامرين والمضاربين الذين لا يملكون رؤية ولا هدفا لتنمية حقيقية وليس لهم خبرة الرأسمالية التقليدية فى ادارة هذه المواقع مما ادى فى النهاية الى تفكيك المصانع وبيعها اراض سكنية وتسريح العمال بعد اعطائهم صدقات لا تغنى ولا تسمن، بالإضافة لعملية التخريب المنظم لما بقى من صناعات لحساب فتح ابواب الإستيراد على مصاريعها،
تزامن هذا مع ارتفاع حاد فى تكلفة المعيشة ووجود جيش من المتعطلين عن العمل بانتظار فرصة للحصول على وظيفة، هذا اللهث المتواصل الى توفير لقمة العيش ومحاولات البقاء على قيد الحياة مما ينهك العمال والكادحين ولا يعطى لهم متنفسا للمشاركة الإيجابية فى قضايا الوطن، ناهيك ان الطبقة العاملة ومنذ 1952 والنظام الحاكم يعتبرها رديفا له، تخرج فى المواكب وتصفق فى المؤتمرات ولا تناضل من اجل الحصول على حقوقها بل يعطيها لها النظام هبة ومنحة.
فى النهاية نقول ان ما تمر به مصر الآن هى أزمة إجتماعية ولا ترقى الى أزمة ثورية الا بشروط اهمها وجود منظمة ثورية تحمل خط فكرى واضح وليس اكليشيهات جاهزة وتعميم ميكانيكى فى العودة الى التأميم والملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وضرورة ان يحدد هذا الخط بوضوح طبيعة الطبقة الحاكمة وطبيعة الثورة القادمة بناء على تحليل موضوعى للواقع ونقد المراحل السابقة ( الشعارات والأساليب والأفكار والشكل التنظيمى )، هذا النقد الذى لم يطرحه اليسار حتى الآن ولا يملك شجاعة التيار السلفى الجهادى فى نقد تجربته، وتحديد موقف واضح يختلف عن الرؤية الليبرالية للإصلاح السياسى عن الحقوق السياسية والتغيير عن طريق صناديق الإنتخاب وتكرار الموقف من الأقباط والمرأة، ووضع تصور واضح للتعامل مع الإخوان وتيار الإسلام السياسى السائد فى المجتمع، هذا البرنامج القادر على صياغته يسار جديد متنور وليس هؤلاء الذين انسحبوا أو خانوا، فمن صنع الأزمة لا يمكنه رسم طريق تجاوزها، وكفى التعامل مع القيادات بالشكل الصوفى كأقطاب او شيوخ طريقة، وفهم المرحلية فى العمل السياسى وليس القفز الى النتائج، وتوضيح كيفية معالجة مشاكل الهيمنة الخارجية ووالتحرر الوطنى وقضايا التنمية والطائفية ومواجهة الخراب الذى وصلنا اليه.
No comments:
Post a Comment