Friday, April 30, 2010

اليسار المصرى......وسؤال الأزمة


تبدو أزمة اليسار المصرى أزمة بنيوية رافقته منذ نشأته حتى الآن، ولكن أزمته الكبرى نشأت منذ حوالى عقدين من السنين بعد إنفراط عقد المنظومة الإشتراكية وتفكك وزوال الإتحاد السوفيتى، حيث فقد هذا اليسار وبشكل نهائى ركيزته الأولى على المستوى العالمى على المستويين المادى والفكرى، وانهارت التجربة التى كان يتغنى بها أمام خصومه ومريديه، فقد ارتبط هذا اليسار ( وأقصد اليسار الشيوعى تحديدا) منذ ولادته عضويا بهذا الجسم، بل أن إنتصار الثورة الشيوعية فى 1917 كانت هى الشرارة الأولى للحركة الشيوعية فى مصر وفى أقطار أخرى عديدة، فتشكل فى مصر الحزب الإشتراكى المصرى بعد أقل من ثلاث سنوات من سيطرة الشيوعيون على السلطة فى موسكو ليغير اسمه بعد اقل من عام الى الحزب الشيوعى بناءا على ضغط من المركز وذلك للسماح له للإنضمام الى الأممية الثالثة، وهكذا كانت الأطراف فى العموم (خاصة الضعيفة منها) فى إرتباط تنظيمى قسرى بالمركز مشكلة بذور هذه الأزمة البنيوية.

و كانت احدى الأزمات المبكرة للحزب الوليد هى إنشقاق جزأ هام من قيادته وقاعدييه وعلى رأسهم المفكر الكبير "سلامة موسى" إحتجاجا على هذا النهج، واستمرت المجموعة التى سمت نفسها بالبلشفية فى قيادة الحزب مستلهمة آراء القادة السوفييت فى رسم التناقضات الداخلية فى مصر وعلى رأسها الموقف الصدامى من حزب الوفد ذو الجماهيرية الساحقة والمهيمن على الشارع المصرى مما ساهم فى توجيه ضربة قاضية الى هذا الحزب الوليد فى عام 1924 بعد وصول حزب الوفد للسلطة.

ويمكن تقسيم تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر الى عدة حلقات غير محددة بفترة زمنية قاطعة ولكنها تجاوزا كالآتى:

الحلقة الأولى : من بدايات القرن العشرين وحتى تصفية الحزب الشيوعى فى 1924

الحلقة الثانية: من نهايات الثلاثينيات (بداية الحرب العالمية الثانية) وحتى قرار حل الحزب الشيوعى المصرى الموحد فى عام 1965

الحلقة الثالثة : وتبدأ من هزيمة 1967 وحتى نهايات الثمانيات( سقوط الإتحاد السوفييتى).

الحلقة الرابعة: وما زالت جنينية وفى طور التشكل مع بداية الألفية الثالثة وحتى الآن.

وكما ذكرت فإن هذا التقسيم افتراضى حيث لا توجد فواصل قاطعة بين كل حلقة وأخرى ويمكن النظر اليها كموجات من المد والجزر أثرت وتأثرت بالظروف الوضوعية فى المجتمع وللحقيقة فإن اكثر هذه الحلقات تأثيرا وتجذرا كانت تلك الحلقة التى واكبت الحرب الكونية الثانية وحتى منتصف الستينات ( الحلقة الثانية )، و على وجه العموم فأنا لا أقصد التأريخ لتطور الحركة الشيوعية فذلك ليس مجالى ولكن البحث فى الموضوع من منظور الأزمة.

ان الظرف الراهن والحراك الإجتماعى المتسارع فى اطار حركة شعبية مطلبية غير مسبوقة وخاصة من جانب الطبقة العاملة تذكرنا بالأوضاع فى مصر عقب نهاية الحرب الثانية وقبيل الثورة وما صاحب هذه الفترة من قلاقل وفورات شملت معظم قطاعات المجتمع من عمال وفلاحين وطلاب وموظفين وحتى قوى الأمن لم تسلم منها وتمثل ذلك فى مظاهرات بلوكات النظام، وتذكرنا هذه المرحلة أيضا بنهاية الثمانينات فى أوروبا الشرقية والثورات المتتالية ضد أنظمة القمع البوليسية.

و الوضع الحالى يتميز بسيطرة نظام حكم متخلف، مع سيطرة مطلقة لكبار رجال الأعمال عليه و مرتبط بشكل عضوى بالمنظومة الإمبريالية وعلى راسها الولايات المتحدة وغارق فى الفساد حتى اذنيه بينما الأغلبية الساحقة تعيش تحت خط الفقر فى ظروف اقتصادية بالغة السوء ولا تملك الا الثورة على هذه الأوضاع المهينة فى شكل حركة غير مسبوقة من الإحتجاجات والإضرابات والإعتصامات على أبواب البرلمان بشقيه الشعب والشورى ومجلس الوزراء وسلالم النقابات وفى أماكن عملها منتزعة حقها فى الإضراب والإعتصام من أنياب السلطة.

وفى ظل غياب مريب وعجز شبه كامل للمعارضة التقليدية ممثلة فى الأحزاب الرسمية اليسارية ( التجمع والناصري) والليبرالية ( الوفد والجبهة ومن لف لفهم ) وحتى الإخوان المسلمين القوة الأكثر تنظيما بتاريخهم الطويل فى المراوغة وعقد الصفقات والذين ترتبط معظم تحركاتهم بقضايا خارجية لا تزعج النظام كثيرا مثل الدفاع عن الأقصى ومناصرة فرعهم فى غزة "حماس"، ناهيك عن قضايا عابرة للقارات مثل موضوع الرسوم المسيئة.

فى ظل هذه الأوضاع المتردية وغياب اليسار المنظم عن الساحة وتشرذم بقاياه القديمة التى تجاوزها الزمن، فإنه تبقى لليسار فرصة تاريخية قد تمكنه اذا احسن استخدامها ان يجد له موضع قدم على الأرض، وتتمثل هذه الفرصة فى وجود عاملين:

العامل الأول: هو الحراك العمالى المطلبى ذو الطابع الإقتصادى والإجتماعى المتصاعد منذ ثلاث سنوات والذى ينفرد اليسار بالتماس معه

العامل الثانى: هو شعار العدالة الاجتماعية بمفهومها الطبقى والذى يتميز به اليسار كونه جزء اساسى من رؤيته وتوجهه السياسى

لذا فإن اليسار بإمكانه إذا أحسن إستغلال هذا الشعار والعمل على الإلتحام بهذه الحركة الوليدة والصاعدة أن يرسخ قدميه مرة أخرى فى الواقع، و أعنى هنا اليسار الجديد والمتمثل فى الحركات الشبابية الجديدة من الناشطين على الإنترنت وحركة الإحتجاجات الإجتماعية المتصاعدة و ملتحمين بالإضرابات والإعتصامات والوقفات الإحتجاجية التى لعبت الدور الأساسى فى نهوض اليسار فى أكثر من دولة بأمريكا اللاتينية والتى إستطاعت فى النهاية أن تشكل من خلال العمل الجماهيرى أحزابا ثورية فى هذه البلدان إستطاعت الإطاحة بالنظم الرجعية الحاكمة.

لا يعنى مما تقدم محاولة التقليل من أهمية التنظيم الثورى فكما قال لينين فإنه لا حركة ثورية بدون حزب ثورى وأن بناء الحزب هو المسألة الأصعب ولكن بناء هذا الحزب لا يتم فى الغرف المغلقة وتدبيج خط سياسى نظرى من استلهام أفكار طبقت فى دول وظروف مختلفة، ونعود الى لينين فى كلماته القاطعة " إن الماركسية هى مرشد للعمل وليست عقيدة جامدة "وفى رسالته الى شعوب الشرق" لن تجدوا فى الكتب إجابة لأسإلتكم".

إن أزمة حركات بدأت بشكل جماهيرى ثم سرعان ما انتكست مثل "كفاية" كانت فى انها ومنذ بداياتها الأولى نشأت من الحركة بين الجماهير ولكن ظلت عينها تنظر الى أعلى باتجاه الأشكال التقليدية القائمة فى محاولة الجمع بين الأضداد فى خليط عجيب غير متجانس من يساريين وليبراليين واسلاميين وانتهت بالسقوط فى يد قيادة اقل ما يقال عنها انها قيادة شوفينية ثيوقراطية (المسيرى ).

إن ما يعرف باليسار التقليدى أو بقايا الحلقة الثانية والثالثة قد تبخروا تقريبا حتى قبل انهيار الإتحاد السوفيتى والتحق عدد منهم بالإمبريالية وآخرين تأسلموا وارتمى بعضهم فى أحضان السلطة وتفرق معظمهم على حركات حقوق الإنسان ومراكز الأبحاث الغربية والأحزاب البرجوازية " الغد والجبهة والكرامة .. وغيرها" وفى أحسن الأحوال بقى جزء منهم فى حزب التجمع الذى ما زال يحلم برأسمالية الدولة ويلهث لإستجداء بضعة مقاعد فى البرلمان من الحزب الوطنى، وحتى البعض خارج هذه الأحزاب ما زال يحاول احياء هذه الأشكال المهترئة من خلال اقامة دكاكين صورية لا تتجاوز عتبة المنظرين لها فى محاولة للبحث عن سبوبة للإرتزاق .

إن الظرف الذى نعيشه الآن مختلف تماما عما كان فى النصف الأخير من القرن الماضى، ولسنا سلفيين حتى نحاول احياء هذا الماضى، فأدوات العولمة وثورة الإتصالات تقتحم علينا كل أوجه الحياة، والثنائية القطبية لم يعد لها وجود، والحديث الذى كان يقال أن القرن العشرين هو عصر الإنتقال من الرأسمالية الى الشيوعية انتهى بكابوس نهاية التاريخ، والعودة الى ما يقرب من نقطة الصفر، والحلم السوفيتى انهار كاشفا عن أسوأ ما أنتجته الستالينية ووجدنا تحت الغطاء مجتمع المافيا وتصدير العاهرات.

حتى بعد هذا السقوط المدوى لم يتعلم الشيوعيين من الدرس شيئا، فلا توجد حتى الآن دراسة محترمة تبين لنا أسباب ما حدث، ولا توجد مراجعة جادة للأفكار السابقة، وما زال البعض يردد ببغائية مقولات ديكتاتورية البروليتاريا والرأسمالية تنتج حفارى قبرها دون الإهتمام بالمقولة اللينينية ( تحليل ملموس للواقع الملموس ).

لا يستطيع احد منا ادعاء الحكمة بأثر رجعى ولا الحكم على مواقف الآخرين بمنظور متأخر، ولكن فى تقديرى أن أكبر خطأين وقع فيهم الشيوعيون عموما حتى المختلفون منهم كان الإنحياز المطلق لمواقف المركز (حتى بعد حل الأممية الثالثة بطلب من النظام الرأسمالى "الحلفاء")، فقد وضع الشيوعيون على رأس أجندتهم الدفاع عن بناء الإشتراكية فى الوطن الأم وأصبحوا فى الأغلب متلقين لتعليمات وليس لأفكار المركز، خذ مثلا قضية الصراع العربى الإسرائيلى فقد تبنى الشيوعيين الموقف السوفيتى من قرار التقسيم بشكل تلقائى دون مناقشة، وبغض النظر عن مدى صحة هذا الموقف من عدمه فلم يكن مطلوبا حينها الإنعزال عن الجماهير الغاضبة والمؤيدة للكفاح المسلح، كذلك فى موضوع الوحدة مع سوريا و الموقف من ثورة يوليو عندما كان الشيوعيون يتذبذبون بين الرفض التام والتأييد المطلق حسب ما يرى القابعون فى الكرملين، وما محاولات إحياء الأممية مرة أخرى من خلال نظام تشافيز فى فنزويلا بعقد مؤتمر فى كاراكاس بحضور 50 منظمة يسارية2009 لتشكيل أممية خامسة الا صورة جديدة من صور الهيمنة فقد تعلمنا أن الذى يمول هو من يفرض رؤيته دائما.

الخطأ الثانى كان فى جرثومة التفتت التى ولدت مع هذه الحركة وخاصة فى أوقات الجذر، وأصبح هم الشيوعيين وجزء كبير من جهدهم طوال الوقت هو النضال من اجل التوحد، وكان ذلك يتم فى معظمه بأساليب فوقية وبنظام المحاصصة، الذى سرعان ما ينفرط تاركا خلفه معارك وجروح لا تندمل، ليعود التشرذم اكثر مما كان.

لقد اتاحت السرية التى طبعت التنظيمات الشيوعية تاريخيا فرصة لفرض صورة بغيضة من الدكتاتورية على أعضائها بحجة المركزية الديموقراطية والتى احتفظت دائما بالشق الأول منها، وحاولت السيطرة على تنظيماتها بصورة مطلقة من خلال نظام الإحتراف الثورى والذى تحول الى طوق فى رقاب أفضل الكوادر لديهم، وإن احتفظت السرية دائما والعمل تحت الأرض والأسماء الحركية بسحرها وجاذبيتها لدى الثوريين و كانت تخفى دائما حجمهم الحقيقى، واستعاضوا عن توجههم للشارع بنشرات صفراء لا يقرؤها الا اعضاءها فقط بل واتاحت للسلطات الحاكمة القيام بالعنف والإرهاب والتضليل ضدهم وزرع العملاء بينهم، وهذا ليس موقفا مطلقا من السرية ولكن يجب ان تبنى السرية على معايير موضوعية ولا تكون هدفا فى حد ذاتها.

للأسف الشديد لقد ازدهرت الأفكار والحركات السلفية على حساب انسحاب اليسار من الساحة واستخدمتها السلطة كمخلب قط لها فى وجه اليسار والحركات القومية التى هزم مشروعها فى عام 1967 وخرج مناضليها من المعركة منسحقين أمام سيطرة هذه الأفكار وبدلا من ان يعملوا للنضال ضدها نجد قطاعا كبيرا منهم يغازلها ويدعو الى التنسيق معها بدلا من العمل مع الجماهيرلإستعادة المبادرة منهم، ويضمننون فى برامجهم أفكارا يمكن تأويلها غير مستفيدين من بعض التجارب التاريخية عندما كان الحزب الوطنى القديم يسجل فى صدر لائحته ( نحن حزب لا دينى )، هذه الحركات السلفية بمختلف أطيافها لا تملك برنامجا للعمل سوى شعارات غائمة من قبيل الإسلام هو الحل بدون حتى معرفة ما هو السؤال حتى تكون تلك إجابته؟.

إن اليسار وحده هو الذى يملك برنامجا واضحا للحل من خلال البعد الإجتماعى لهذا البرنامج وطرح شعار العدالة الإجتماعية والموقف الواضح من قضايا المرأة والأقباط، والنضال ضد الرأسمالية المتوحشة والإمبريالية، وهو اى اليسار ببعض رموزه من يتلامس حقيقة مع الحركات العمالية الإجتماعية الناهضة ويسعى لتجذير مطالبها وإكسابها وعيا طبقيا من خلال السعى لبناء النقابات المستقلة وليس فقط التعاطف مع ظروفها القاسية وكما قال جرامشى ( إن الوعى الطبقى لا يشكله فقط الحرمان والجوع والإضطهاد ).

يقول جرامشى فى مكان آخر ( عندما تشيخ الرأسمالية وتعجز الثورة عن الإشتعال يكون المجتمع مريضا ) ، وما يحدث الآن فى حقيقته ليس مرضا وحسب ولكنه إحتضار، وما نحتاجه الآن ليس علاجا ولكن اعادة احياء لهذا الجسد المحتضر، ولا يوجد أمل فى تقديرى الا فى المراهنة على هذا الجيل الجديد من الشباب الذى يندفع بجسارة فى الميدان من أمثال حركات 6 إبريل والإشتراكيين الثوريين وعايز حقى وشباب الجمعية الوطنية للتغيير وكل المجموعات المتشكلة ليس فقط على فراغ الإنترنت بل فى الشارع والعمل الجماهيرى أيضا.

No comments:

Post a Comment